الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(
[الكلام على الفقير والمسكين] :)
أقول: الواجب الجزم بأن الفقير من ليس بغني، والغني قد ثبت في الشريعة المطهرة تعريفه، كما أخرجه أهل " السنن " من حديث ابن مسعود مرفوعاً: أنه قيل: يا رسول الله! وما الغنى؟ قال: " خمسون درهما أو قيمتها من الذهب "، فمن لم يملك هذا المقدار فهو فقير؛ لأنه إذا ارتفع عنه اسم الغنى ثبت له الفقر؛ إذ النقيضان لا يرتفعان، كما لا يجتمعان، ولا بد من كونه يملك معها ما لا بد منه من ملبوس وفراش ومسكن، حاصله ما تدعو الضرورة إليه؛ لأن من المعلوم أنه -[صلى الله عليه وسلم]- لم يرد بذلك المقدار قيمة ما يلبسه ويسكنه، ويلحق بذلك ما لا يتم له القيام بالأمور الدينية أو الدنيوية بدونه، كآلة الجهاد للمجاهد، وكتب العلم للعالم، وآلة الصناعة للصانع؛ فمن ملك مما هو خارج عن هذه الأمور ما يساوي خمسين درهماً؛ كان كمن ملك الخمسين أو قيمتها من الذهب فيكون غنيا، ومن لم يملك ذلك المقدار فهو فقير تحل له الزكاة، والمصير إلى ما قررناه متحتم.
والحق أن الفقير والمسكين متحدان، يصح إطلاق كل واحد من الاسمين على من لم يجد فوق ما تدعو الضرورة إليه خمسين درهما، وليس في قوله - تعالى -:{كانت لمساكين} ما ينافي هذا؛ لأن ملكهم لها لا يخرجهم عن صدق اسم الفقر والمسكنة عليهم، لما عرفت من أن آلات ما تقوم به المعيشة مستثناة، والسفينة للملاح كدابة السفر لمن يعيش بالمكاراة، والضرب في الأرض.
وليس في الآية الكريمة ما يدل على أن صدقة كل إنسان تُصرف في كل
صنف من الأصناف الثمانية، بحيث يحصل لكل صنف مقدار معين، وهذا أوضح.
ثم أقول: كتاب الله وسنة رسوله مصرحان بأن الفقير يُعطى من الزكاة، وليس فيهما التقييد بمقدار معين، وليس المعتبر إلا اتصاف المصرف وهو الفقير والمسكين، ومن كان الفقر شرطا للصرف فيه بصفة الفقر أو المسكنة؛ فمن صرف إليه في تلك الحال فقد صرف إلى مصرف شرعي، وإن أعطاه مالا جما، وأنصباء متعددة؛ فهو إنما اتصف بصفة الغني بعد الصرف إليه، وذلك غير ضائر للصارف ولا مانع من الإجزاء.
ومن زعم أنه لا يجوز إلا دون النصاب؛ فعليه الدليل الصالح لتقييد ما كان مطلقا من الأدلة وتخصيص ما كان عاما، وليس هناك إلا مجرد تخيلات فاسدة، لم تُبن على أساس صحيح.
وأما الغارم؛ فظاهر إطلاق الآية يشمل من عليه دين، سواء كان غنيا أو فقيرا، مؤمنا أو فاسقا، في طاعة أو معصية.
أما عدم الفرق بين الغني والفقير؛ فليس فيه إشكال؛ لدخولهما تحت الآية، ولاستثناء الغارم من حديث:" لا تحل الصدقة لغني ".
وما سلكه صاحب " المنار " من التخصيص والتعميم، فوهم منشؤه تجريد النظر إلى لفظ " غني " من غير نظر إلى تمام الحديث المشتمل على استثناء خمسة، أحدهم الغارم.
وأما عدم الفرق بين المؤمن والفاسق؛ فلإطلاق الآية، لا سيما إذا كان
ما استدانه الفاسق في غير سرف ولا معصية، فلا معنى لاشتراط الإيمان.
وأما عدم الفرق بين الدين في طاعة أو معصية؛ فلتناول الإطلاق له، وإذا ورد ما يقتضي التقييد بما لزم في طاعة فله حكمه.
نعم؛ إذا كانت الإعانة له تستلزم إغراءه على المعاصي، ووقوعه فيما يحرم عليه؛ فلا ريب أنه ممنوع لأدلة أخرى، وأما إذا لزمه الدين في السرف والمعصية، ثم تاب وأقلع وطلب أن يعان من الزكاة على القضاء؛ فالظاهر عدم المنع.
وأما سبيل الله؛ فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل، والجهاد - وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به؛ بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل؛ هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية، حيث لم يصح النقل هنا شرعاً.
وأما اشتراط الفقر في المجاهد؛ ففي غاية البعد! بل الظاهر إعطاؤه نصيبا وإن كان غنيا، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون من أموال الله عز وجل التي من جملتها الزكاة في كل عام، ويسمون ذلك عطاء، وفيهم الأغنياء والفقراء، وكان عطاء الواحد منهم يبلغ إلى ألوف متعددة، ولم يسمع من أحد منهم أنه لا نصيب للأغنياء في العطاء، ومن زعم ذلك فعليه الدليل.
فإن قال: الدليل حديث: " إن الصدقة لا تحل لغني "؛ قلنا: أصناف مصارف الزكاة ثمانية، أحدها الفقير، فمن لم يكن فيه إلا كونه فقيرا بدون