الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبسنده عن عائشة مرفوعًا (إن الرفق يمن وإن الخرق شؤم)، ورواه أبو الشيخ عبد الله بن حيان- في كتاب الأمثال- بلفظ: الرفق يمن، والخرق شؤم.
وفي الشعب- للبيهقي- بسنده، عن عمر بن عبد العزيز- رحمه الله عليه- أنه قال: إن من أحب الأعمال إلي الله- عز وجل العفو عند المقدرة، وتسكين الغضب عند الحدة، والرفق بعباد الله.
وروي الطبراني من حديث أبي أمامه مرفوعًا: "إن الله يحب الرفق ويرضاه ويعين عليه ما لا يعين علي العنف".
ورواه (مالك) في الموطأ- من حديث خالد بن (معدان) مرسلًا.
قال ابن عون: (ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلي جانبها كلمة اللين تجري مجراها).
وروي مالك في الموطأ عن يحيي بن سعيد القطان. قال: إن عيسي ابن مريم- عليه السلام لقي خنزيرًا فلي الطريق فقال: ابعد بسلام. فقيل له: تقول هذا لخنزير؟ فقال عيسي: أكره وأخاف أن أعود لساني النطق بالسوء.
وقال أبو حمزة الكوفي: لا تتخذ من الخدم إلا من لا بد منه، فإن مع كل إنسان شيطانًا، وأعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئًا إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه.
فصل (11): تأكد استحباب الرفق للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر
ويتأكد استحباب الرفق للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر. وقد عد شيخ مشايخنا عبد القادر الكيلاني- قدس الله روحه- في كتاب الغنيمة من شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: أن ذلك باللين والرفق لا بالفظاظة والغلظة بل يكون شفوقًا علي أخيه المسلم. كيف
وافق عدوه الشيطان الرجيم الذي قد استولي علي عقله وزين له معصية ربه ومخالفة أمره، يريد بذلك إهلاكه وإدخاله النار.
وروي أبو بكر البيهقي- في شعب الإيمان- بسنده، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده- رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف).
وقد سبق في أوائل هذا الباب من رواية أبي محمد الخلال- في كتاب الأمر بالمعروف بسنده عن أسامة بن زيد مرفوعًا: "لا ينبغي لأحد أن يأمر بمعروف حتى يكون فيه ثلاث خصال: عالمًا بما يأمر، عالمًا بما ينهي، رفيقًا بما يأمر به رفيقًا فيما ينهي".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي أمامه الباهلي- رضي الله عنه أن فتي شابًا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا. فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا:(مه مه) قال: ادنه فدنا منه متقربًا. قال: فجلس. قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا، والله جعلني، الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال: افتحبه لابنتك؟ قال لا والله جعلني الله فداك. قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال لا والله (جعلني الله فداك) قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم. قال أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني فداك قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم. قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله جعلني فداك. قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم". قال: فوضع يده عليه. وقال: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه وحصن فرجه). فلم يكن بعد ذلك الفتي يلتفت إلي شيء.
قال الحافظ زين الدين أبو الفضل العراقي: إسناده جيد ورجاله رجال الصحيح.
وروي أبو القاسم الطبراني- في المعجم الكبير- من طريق جرير بن عثمان بن سليم بن عامر، عن أبي أمامة- رضي الله عنه نحوه والرجل المبهم هو أبو الوليد] كثير [الهذلي الشاعر والله أعلم.
وروي أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف).
وقد سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله عن الرجل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر هو يظن أن لا يطاع في ذلك ممن لا يخاف مثل الجار، والأخ.
قال: ما أري بذلك بأسًا ولا سيما إذا رفق به، فإن الله -تعالي- ربما ينفع بذلك.
قال تعالي: {فقولا له قولًا لَّينا لَّعلَّه يتذكَّر أو يخشي} .
لقد علم الله - سبحانه- أن فرعون لا يتذكر ولا يخشي، وإنما قص الله علينا قصته، لتكون سنة. فإذا كان الله- تعالي- أمر كليمه موسي وأخاه هرون عليهما السلام أن يذهبا إلي فرعون عدوه، ويقولا له قولًا لينًا فكيف من قد جعل الله في قلوبهم الإيمان وإن ابتلاهم بالمعاصي؟ فهم أولي أن يرفق بهم ويتعطف عليهم، لعل الله تعالي يستنفذهم مما هم فيه.
وأنشدوا
ألم تر أن الله يرحم خلقه
…
وإن قصروا في حقه فهو يفضل
ففرعون يؤذيه بضيم عباده
…
من شا يستحي ومن شا يقتل
ويزعم أن لا رب للخلق غيره
…
ويفتنهم عن دينهم ويضلل
ومع ذاك أوصي الله موسي كليمه
…
وهرون رفقًا منه والرفق أجمل
فقولا له قولًا من الوعظ لينًا
…
عساه لما أبدي من النصح يقبل
إذا كان هذا لطفه بعدوه
…
فما تراه (بعد ذا) بالأحبة يفعل
وقال إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني رحمه الله: الشرع من أوله إلي آخره أمر بالمعروف ونهي عن المنكر والدعاء إلي ذلك يثبت لكافة المسلمين إذا قدموا علي بصيرة. وليس للرعية إلا المواعظ والترغيب والترهيب.
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله ينبغي للآمر بالمعروف أن يعظ ويخوف بالله -تعالي- ويورد علي المأمور الأخبار الواردة بالوعيد غي ذلك، وذلك لمن يقدم علي المنكر وهو عالم بكونه منكرًا، كالذي يواظب علي الشرب أو علي الظلم أو علي اغتياب المسلم أو
ما يجري مجراه، ويحكي سير السلف وعادة المتقدمين، وكل ذلك لشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويري إقدامه علي المعصية مصيبة علي نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة.
وقال أبو زكريا يحيي النووي: وينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق، ليكون أقرب إلي تحصيل المطلوب. انتهي. فقد يأمر المرء بالمعروف ويكون أمره منكرًا، لأنه إذا أمر بعنف وغلظة وفظاظة يوشك أن يفضي ذلك إلي العداوة والشر والتقاتل والمحاربة فيكون منكرًا وغالب الناس إذا رأي من الأمر غلظة وجفوة في أمره ونهيه لا يقبل قوله ولا يطيع أمره.
كما روى الإمام أحمد قال: حدثنا معتمر بن سليمان. قال: سمعت (أبي) يقول: ما أغضبت أحدًا فقبل منك. وذلك أن معاملة الخلق بالعنف والشدة والغلظة ينفرهم ويبعدهم عنك، وإذا نفروا لا يصغوا إلي ما تأمرهم به وتنهاهم عنه، ثم يفسد عليك قلبك وحالك مع الله. (وقال ابن القيم: ليس قلب أنفع من معاملة الخلق باللطف فإن المعامل باللطف إما أجنبي فتكسب مودته وصحبته وإما صاحب وحبيب فتستديم مودته وصحبته وإما عدو فتطفئ بلطفك جمرة عداوته وتستكفي شره).
قال العلامة ابن مفلح رحمه الله: وينبغي أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متواضعًا رفيقًا فيما يدعو إليه شفيقًا رحيمًا غير فظ ولا غليظ القلب رقيقًا عالمًا بالمأمورات والمنهيات شرعًا، دينًا نزهًا عفيفًا ذا رأي وصرامة وشدة في الدين قاصدًا - بذلك- وجه الله وإقامة دينه ونصرة شرعه وامتثال أمره وإحياء سنته بلا رياء ولا منافقة ولا مداهنة، غير منافر ولا مفاخر ولا ممن يخالف فعله ويسن له العمل بالنوافل والمندوبات والرفق وطلاقة الوجه وحسن الخلق عند إنكاره والتثبت والمسامحة عند أول مرة.
قال حنبل: (سمعت أبا عبد الله يقول: والناس يحتاجون إلي مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فقد وجب عليك نهيه وإعلامه، لأنه يقال: ليس لفاسق حرمة. فهؤلاء الفساق لا حرمة لهم ونقل مهنا عنه: ينبغي أن يأمر بالرفق والخضوع، قلت: كيف؟ قال: أن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيريد أن ينتصر لنفسه).
وقال بعض السلف: ينبغي أن يكون أمرك بالمعروف والتأني والمداراة بشفقة منك عليه، ورحمة منك له، لعلك تستنقذة من النار، فبالرفق تنال ما تريد من خير الدنيا والآخرة.
وروي أبو محمد الخلال أنه قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يري من الرجل الشيء ويبلغه عنه، أيقول له؟ فقال: هذا تبكيت، ولكن يعرض.
وقال عبد الله المأمون بن هارون الرشيد- إذا وعظه واعظ وعنف له في القول: يا رجل ارفق فقد بعث الله من هو حير منك إلي من هو شر مني، وأمر بالرفق. فقال-تعالى-:{فقولا له قولًا لَّينا لَّعلًّه يتذكر أو يخشي} .
فليكن إقتداء الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر في الرفق بالأنبياء عليهم السلام.
وروي ابن أبي الدنيا- بسنده- عن عبد الله بن المبارك، عن عبد العزيز بن أبي داود رحمه الله أنه قال: كان من قبلكم إذا رأي من أخيه شيئًا يأمره في رفق فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء بخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك ستره.
وقد روي أبو بكر بن أبي الدنيا بسنده- عن أبي سلمة، عن ثابت البناني أن صلة بن أشيم وأصخابه أبصروا رجلًا قد أسبل إزاره، فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة. فقال: دعوني أنا أكفيكموه. فقال: أين يا أخي أم لي إليك حاجة. فقال: وما حاجتك يا عم؟ قال: أحب أن ترفع إزارك. فقال: نعم وكرامة. فرفع إزاره. فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا أفعل ولا كرامة.
وعن محمد بن زكريا الغلابي. قال: (شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في غلام من قريش سكران وقد قبض علي امرأة يجذبها فاستغاثت، فاجتمع الناس عليه يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه. فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي. فاستحي الغلام وجاء إليه فضمه إلي نفسه، ثم قال: امض معي فمضي معه حتي صار إلي منزله وأدخله الدار.
وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما جرى وما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به. فلما أفاق وذكر له ما جرى استحى منه (وبكى) وهم بالانصراف. فقال له الغلام: قد أمرني مولاي أن تأتيه، فأدخله عليه. فقال له: أما استحييت (لنفسك) لشرفك! فاتق الله وانزع عما أنت فيه، فبكى الغلام منكسًا رأسه ثم رفعه وقال: عاهدت الله عهدًا يسألني عنه يوم القيامة أن لا عدت أشرب الخمر ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب إلى الله. فقال: ادن مني فدنا منه، فقبل رأسه وقال: أحسنت يا بني. فكان الغلام- بعد ذلك- يلزمه، ويكتب الحديث، وكان ذلك من بركة الرفق. ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف ويكون معروفهم منكرًا فعليكم بالرفق في جميع الأمور تنالوا به ما تطلبون).
وروى الإمام أبو بكر ابن أبي الدنيا بسنده عن علي بن (غنام) الكلابي، عن أبيه. قال: مر محمد بن المنكدر- رحمة الله عليه- بشاب يجذب امرأة في الطريق فقال: يا فتى ما هذا جزاء نعم الله عندك.
وبسنده عن عثمان بن الوليد قال: رأى محمد بن المنكدر رجلًا مع امرأة في خراب وهو يكلمها. فقال: إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما.
وبسنده، عن محمد بن المنكدر- أيضًا- أنه وجد لصًا في داره يقال له: قنديل. كان غلامًا لآل إبراهيم بن محمد بن طلحة. فقال: عشوا قنديلًا وابعثوا به إلى مواليه.
ودعي الحسن البصري- رحمة الله عليه- إلى عرس فجيء بجام من فضة فيه خبيص، فتناوله فقلبه على رغيف وأصاب منه. فقال رجل من الحاضرين: هذا نهي في سكون.
فهكذا كانت عادة أهل الدين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الرفق واللطف بالمأمورين.
فينبغي- حينئذ- لمن سلك طريقهم أن يكون رفيقًا لاسيما للمأمور القاصر بالمعصية على نفسه في مبادئ الأمر والنهي، لعل الله- تعالى- أن يستنقذه مما هو فيه ببركة الرفق، لأنه أشرف أخلاق الآمرين والناهين.