الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك جماعة من السلف تهاجروا لمصلحة يضيف هذا المحل عن ذكرهم حتى إن بعض الصحابة رضي الله عنهم أثروا فراق نفوسهم لمخالفتها للخالق فمنهم من يقو زنيت فطهرني، ونحن لا نجسر أن نقاطع أحدًا في الله لمكان المخالفة.
فصل (29): تباين درجات الهجر بحسب درجات اعتقاد وسلوك الجماهير:
قد تقدم في أوائل هذا الفصل ذم الله تعالى -لمصاحبة البطالين إخوان الشر الذين لا يبالون بالمعصية ولا يخافون من الله ولا يرجون الله وقارًا ويتسلطون على عباد الله الصالحين بالإيذاء والاستهزاء والغيبة والخوض فيما لا يعني فمثل هؤلاء القوم ينبغي للمؤمن أن لا يجالسهم ولا يعاشرهم ولا يركن إليهم وهؤلاء أقسام:
فمنهم قسم كفار معاندون لله ولرسوله أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء عباده المؤمنين وهؤلاء أيضًا - ينقسمون قسمين:
القسم الثاني: المنافقون الذين آمنوا في الظاهر وكفروا في الباطن فأوهموا المؤمنين أنهم منهم ومعهم حتى أمنوهم وذلك لتلفظهم بكلمة التوحيد ظاهرًا وهم في الباطن مع الكفار يوادونهم ويطلعونهم على عورات المسلمين ولا يخفون عنهم شيئًا من أحوالهم وودهم ومحبتهم للكفار. فهذان القسمان ينبغي للمؤمن من أن لا يجالسهم ولا يعاشرهم ولا يركن إليهم وهؤلاء أقسام: فمنهم قسم كفار معاندون لله ورسوله أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء عباد المؤمنين وهؤلاء أيضًا ينقسمون قسمين:
-فهذان القسمان ينبغي أن يجالسهم المؤمن أصًلا ولا يصاحبهم ولا يخالطهم ولا يسمع حديثهم لأنهم لا يزالون يستهزؤون بالأنبياء والصالحين.
وهذان القسمان هما اللذان نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن الجلوس والخوض معهم في أحاديثهم وأمره بالقيام من مجالسهم إلا نسيانًا فإذا ذكر قام من بينهم.
القسم الثالث: أن يكون مسلمًا ليس في إيمانه وليس في نفاق ولكنه كثير الغفلة والمعاصي لا يعتني بالعبادة ولا يخاف من مواقعة الذنوب.
فهذا القسم ليس اعتقاده كاعتقاد من تقدم من الكفار والمنافقين بل اعتقاد بالإيمان يكثر من فعل المعاصي قد عقل عن الله تعالى وعن عبادته.
فهذا القسم -أيضًا- ينبغي التجنب لأنه جليس سوء ربما أورثك من مجالسته إما
مشاركته في معاصيه أو مشاهدتك له على المعصية ولا تنهاه. فمجالسة مثل هذا تورث الغفلة ويدل على هذا مايثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن يجد منه ريحًا طيبة ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجحد منه ريحًا خبيثة).
قوله يحذك -بحاء مهملة وذال معجمة أن يعطيك.
وأنشدني أبو الفدا إسماعيل البقاعي في نظم له:
وجانب بني السوء وأقبل وصيتي
…
فقربهم يزري وللعرض يثلب
وما أحسن قول ابن الملحي في كان وكان:
السن إن غاب يؤذي بقسوة ويؤذي مجاور
…
فيقتضي الرأي قلعوا لهجم الأسنان
وهكذا كل مؤذي ما له سوى الهجران
…
كالنار إن لم تنطفئ سعت إلى الجيران
وقال غيره:
وما ينفع الجرب قرب صحيحه
…
إليها ولكن الصحيحة تجرب
فهذا مثله مثل نافخ الكير.
القسم الرابع: قوم مؤمنون موحدون ليسوا بكفار ولا منافقين ولا لهم إرب في فعل المعاصي والخوض فيما لا يغني ولكن عندهم كسل وتباطؤ عن الطاعة مقصرون.
مجالستهم تورث الكسل فإن المؤمن ينشط المؤمن إذا رآه على الاجتهاد ويكسله إذا كان عنده فتور.
وقال أبو الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حاجاته
…
كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة
…
والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وهذا -أيضًا- جاء في حديث ابن عمر من رواية الصحيحين، وأحمد والترمذي وابن ماجه "لا حسد إلا في اثنين". لأنه لما رأى قارئ القرآن قائمًا بأمر الله عامًلا بالقرآن آناء الليل وأطراف النهار تمنى مثل منزلته وأن يعمل بمثل عمله وكذلك لما رأى صاحب المال تصدق من ماله وأنفق منه في وجوه الخيرات والقربات تمنى أن يكون له مال حتى يعمل مثل عمله فتنفعه صحبة هذين الرجلين لأنه اكتسب مما رآه منهما من الأعمال الصالحة اليقظة وأحب أن يعمل بمثل عمله وإما أن تسمع منه خيرًا ولا تسمع منه ما تأثم به فصحبة مثل هذا أو الجلوس معه هي النافعة.
وضد هذا الذي يخوض في آيات الله بالرد والضد والتكذيب والاستهزاء وهو الذي نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجالسه وأمره بالقيام من مجلسه ولا يقعد معه كما تقدم وذلك من مفهوم هذه الآية: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم} . فأمره صلى الله عليه وسلم بمتاركتهم والقيام عنهم بل الأمر بالقتال وإذا كان حديث هؤلاء في المباح فهو مخير بين الجلوس معهم وبين عدم ذلك.
وفي الأول منهي عن جلوسهم ولا يقعد معهم أصًلا إلا إ ذا كان ناسيًا وندب إلى أن المؤمن إذا رأى من كان كذلك أن يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن الخوض فيما لا يعنيه ولأن سبحانه أمر بموعظة من كان كذلك وتذكيره ونهاه عن الخوض {ولكن ذكرى لعلَّهم يتَّقون} . وروى الحافظ أبو نعيم -بسنده- عن مبارك أبي حماد قال: سمعت سفيان الثوري يقول لعلي بن الحسن السلمي: إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك فإنما يفسد عليك قلبك مجالسة أهل الدنيا وأهل الخوض وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله وإياك وما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الخوض وأهل الشهوات وإياك ومجالسة أهل الجفاء ولا تصحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي ولا تصحب الفاجر ولا تجالسه ولا تجالس من يجالسه ولا تؤكل من يؤاكله ولا تحب من يحبه ولا تفش إليه سرك ولا تبسم في وجهه ولا توسع له في مجلسك فإن فعلت له شيئاً من ذلك فقد قطعت عرى الإسلام.