الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل (19): ومما يستحب للآمر بالمعروف أن يكون قصده رحمة الخلق والنفقة عليهم:
ومما يستحب للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر القائم في حدود الله- أعانه الله تعالى- أن يكون قصده رحمة الخلق كلهم والنفقة عليهم، بكف الناس عن المنكرات التي تسبب الدمار في الدنيا والعقوبات في الآخرة.
قال الله تعالى: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفَّار رحماء بينهم} غلاظ كالأسد على فريسته. قيل: المراد {وبالذين معه} جميع المؤمنين، {رحماء بينهم} أي يرحم بعضهم بعضًا.
وقيل: (متعاطفون متوادون).
وقد سبق نظير هذه الآية في أوائل الكتاب- قوله تعالى- {
…
أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
…
}.
فالرحمة- بفتح الراء المهملة- الحنو والعطف الرقة رحم يرحم إذا حن ورق وتعطف. والله أعلم.
(وفي الصحيحين من حديث- أسامة بن زيد- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء) في (الرحماء) يجوز الرفع والنصب. والله أعلم).
وفيهما- أيضًا- من حديث جرير بن عبد الله مرفوعًا: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله- عز وجل) وفي رواية: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).
ورواه أحمد- في المسند- وزاد (
…
من لا يغفر لا يغفر له).
ورواه الترمذي. وقال في الثاني: حديث حسن صحيح.
وفي الصحيحين، ومسند أحمد، وسنين أبي داود، والترمذي من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه في حديث تقبيل النبي- صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من لا يرحم لا يرحم).
قوله: (من لا يرحم لا يرحم) بضم الميم- فيهما- على الخبر.
وقيل: بالجزم إن جعلت شرطًا. والله أعلم.
أخبرنا شيخنا الإمام العلامة الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الجزري الشافعي الدمشقي- فسح الله في مدته- قال: أخبرنا أبو الثناء محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنجي- قرأه عليه وهو أول حديث سمعته منه. قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم البغدادي- وهو أول حديث سمعته منه. قال: أخبرنا الإمام شيخ الشيوخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد بن عبد الله السهروردي وهو أول حديث سمعته منه يقول: قال أخبرتنا الشيخة الصالحة ست الدار شهدة بنت أحمد (الأيري) الكاتبة وهو أول حديث سمعته منها. قالت: أخبرنا زاهر بن طاهر الشحامي وهو أول حديث سمعته منه. قال: أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن- وهو أول حديث سمعته منه. قال: حدثنا أبو حامد البزار، وهو أول حديث سمعته منه قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشر- وهو أول حديث سمعته منه قال: حدثنا سفيان بن عيينة- وهو أول حديث سمعته من- سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الراحمون يرحمهم الله. ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء).
وروى الحديث أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه الإمام أحمد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر: (ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون).
ورواه الطبراني، والبيهقي- في شعب الإيمان.
قوله: (ويل لأقماع القول) الأقماع جمع قمع بكسر القاف وسكون الميم، وفتحها، وقيل: بفتح القاف وسكون الميم- وهو الإناء الذي ينزل في رؤوس الظروف، لتملأ بالمائعات.
يشبه أسماع الذين يسمعون القول ولا يعونه ويحفظونه ويعملون به بالأقماع. والله أعلم.
(وروى الطبراني من حديث ابن مسعود مرفوعًا- بإسناد حسن- من لم يرحم الناس لم يرحمه الله).
وروى من حديث جرير مرفوعًا- بإسناد جيد قوي-: (من لا يرحم من في الأرض لا يرحمه من في السماء).
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي، وصحيح ابن حبان
من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي) هذا لفظ الترمذي. وقال هذا حديث حسن، وفي بعض النسخ صحيح.
وفي المعجم الأوسط، والصغير للطبراني، من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيت فيه نفر من قريش فأخذ بعضادتي الباب. فقال: هل في البيت إلا قرشي؟ فقالوا: لا إلا ابن أخت لنا. قال: إن ابن أخت القوم منهم. ثم قال: إن هذا الأمر في قريش ما إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا، وإذا قسموا أقسطوا، ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قال المنذري: رواته ثقات.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد- بسنده- عن أبي صالح عبد الرحمن بن قيس مرسلًا: إن الله- عز وجل رحيم. لا يضع رحمته إلا على رحيم، ولا يدخل جنته إلا رحيم. قالوا: يا رسول الله إنا لنرحم أموالنا وأهالينا. قال: ليس بذلك ولكن ما قال الله- عز وجل: {حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم} .
وفي الترغيب والترهيب، لأبي القاسم إسماعيل الأصبهاني، بسنده، عن أبي هريرة مرفوعًا:(لن يلج الجنة إلا رحيم)، فقال بعض الصحابة: كلنا يا رسول الله رحيم. قال: (ليس برحمة أحدكم خاصة حتى يرحم الناس عامة).
وروى الحاكم في المستدرك، والطبراني نحوه من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ:(لن تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على ما تحبون عليه؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: (أفشوا السلام بينكم تحابوا والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تراحموا) قالوا: كلنا رحيم قال: (إنه ليس برحمة أحدكم ولكن رحمة العامة).
قال الحافظ عبد العظيم المنذري: رواته رواة الصحيح.
وروى أبو يعلى الموصلي، والطبراني نحوه من حديث أنس بلفظ:(والذي نفسي بيده ولا يضع الله الرحمة إلا على رحيم. قلنا: يا رسول الله كلنا رحيم. قال: ليس الرحيم الذي يرحم نفسه وأهله خاصة ولكن الرحيم الذي يرحم المسلمين).
وروى أبو القاسم إسماعيل الأصفهاني- في الترغيب والترهيب- بسنده، عن أبي عبد السلام، عن أبيه، عن كعب الأحبار- رحمة الله عليه- قال: قال الله- تبارك وتعالى: يا موسى أتريد أن أملأ مسامعك يوم القيامة مما يسرك؟ ارحم الصغير كما ترحم ولدك وارحم الكبير كما ترحم الصغير، وارحم الغني كما ترحم الفقير، وارحم المعافى كما ترحم المبتلى وارحم القوي كما ترحم الضعيف وارحم الجاهل كما ترحم الحليم.
وقد سبق- في الباب الأول- من حديث ابن عباس من رواية أحمد، والترمذي وابن حبان مرفوعًا:(ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر).
وقوله: (ليس منا) أي ليس من رحمائنا وذوي الرقة والعطف المرحومين منا. من لم يرحم الصغير أي لضعفه وعجزه وبرائته عن قبائح الأعمال. وقد يكون الصغير في المعنى مع تقدم السن. فيصغر القدر بالجهل والغفلة فيرحمها بالتعليم له والإرشاد، شفقة عليه.
وقوله: (ويوقر كبيرنا) لأن التوقير هو التفخيم والتعظيم والكبير يكون كبيرًا بأمرين: صورة ومعنى. فالصورة للكبير بالسن فله حظه من التوقير والتعظيم، لما خص به من السبق في الوجود وتجربة الأمور وأما الكبير معنى، فبالعلم والفضل والدين والتقوى فيستحق من التعظيم والتوقير بحسب ما عنده من ذلك إجلالًا لحق العلم وتبجيلًا لموضع الفضل والله أعلم.
وروى الإمام أحمد- في كتاب الزهد- بسنده عن مسلم بن أبي مريم- رحمة الله عليه- أنه بلغه أن عيسى- عليه السلام قال: لا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا كأنكم عبيد فإنما الناس بين مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله تعالى على العافية.
قال لقمان: يا بني ارحم الفقراء، لقلة صبرهم وارحم الأغنياء لقلة شكرهم وارحم الجميع لطول غفلتهم.
وروى أبو القاسم في الترغيب والترهيب- بسنده- عن عبد الرحمن بن عسيلة، هو
عبد الرحمن الصنابجي عن أبي بكر الصديق مرفوعًا: قال الله- عز وجل: (إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا خلقي
…
) ورواه أبو أحمد عبد الله بن عدي- في كتاب الكامل-.
وروى صاحب الترغيب والترهيب- أيضًا- بسنده عن أسامة بن شريك الثعلبي مرفوعًا: "من لا يشكر الناس لا يشكر الله، ومن لا يرحم لا يرحمه الله، ومن لا يغفر لا يغفر الله- تعالى- له". وروى الإمام أحمد، والحاكم والأصبهاني من حديث معاوية بن قرة، عن أبيه- رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها. أو قال: إني أرحم الشاة أن أذبحها.
قال: "والشاة إن رحمتها رحمك الله- تعالى".
قال الحاكم: صحيح الإسناد.
فينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون كالوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديبه كما تفعل الأم، رقة ورحمة لفسد الولد، وإنما يؤدبه، رحمة به وإصلاحًا لحاله مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب بعد ذلك.
وروى أبو بكر البيهقي- من شعب الإيمان- بسنده، عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان الداراني- قدس الله سره- يقول: إنما الغضب على أهل المعاصي لجرأتهم عليها. فإذا تذكرت ما يصيرون إليه من عقوبة الآخرة دخلت القلوب الرحمة لهم. وقيل لبعض السلف: بأي شيء تعرفون الأولياء لله- عز وجل؟ قالوا: بلطف ألسنتهم وحسن أخلاقهم، وبشاشة وجوههم وسخاوة نفوسهم، وقبول عذر من اعتذر إليهم وتمام ذلك الشفقة على الخلق برهم وفاجرهم.
وليس من مقتضى رحمة أهل المعاصي ترك الإنكار عليهم واستيفاء الحدود منهم وغير ذلك، بل من كمال الرحمة بهم الإنكار عليهم وردهم إلى المنهج القويم والصراط المستقيم.
وإذا انحرفت النفس من خلق الرحمة انحرفت إلى قسوة قلب، وإما إلى ضعف قلب وجبن، كمن لا يقدم على ذبح شاة ولا إقامة حد ولا تأديب ولد، ويزعم أن الرحمة تحمله على ذلك. وقد ذبح أرحم الخلق بيده صلى الله عليه وسلم في موقف واحد ثلاثمائة وستين بدنة وقطع الأيدي من الرجال والنساء، وضرب الأعناق، وأقام الحدود ورجم بالحجارة حتى مات