الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهد بنفسه منكرًا فهل له إقامة الحد فأشار (علي) إلى أن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد).
وسيأتي في بيان حد الظهور والاستتار في مكانه - من الباب الخامس - (فكل من ستر معصيًة في داره وأغلق بابه فإنه لا يجوز التجسس عليه) كما سيأتي الكلام على ذلك والخلاف فيه في الباب المذكور إن شاء الله تعالى.
فصل - (16): أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبني على الظنون
لكن أمل الأمر والنهي مبني على الظنون، لأن الظن تجويز لأمرين أحدهما أظهر من الآخر.
فقد قال الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام: فإن قيل: هل يبنى إنكار المنكر على الظنون كما ذكرتموه في غيره؟
قلنا: نعم الإنكار مبني على الظنون كغيره فإنا لو رأينا إنسانًا يسلب ثياب إنسان لوجب علينا الإنكار عليه بناء على الظن المستفاد من ظاهر يد المسلوب. وكذلك لو رأيناه يجر امرأة إلى منزله يزعم أنها زوجته أو أمته وهي تنكر ذلك لوجب علينا الإنكار عليه لأن الأصل عدم ما ادعاه.
وكذلك لو رأيناه يقتل إنسانًا يزعم أنه كافر حربي ودخل في دار الإسلام بغير أمان وهو يكذبه في ذلك لوجب علينا الإنكار عليه، لأن الله - تعالى- خلق عباده حنفاء والدار دالة على إسلام أهلها، لغلبة المسلمين عليها فإن أصابت ظنوننا في ذلك فقد قمنا بالمصالح التي أوجب الله علينا القيام بها وأجرنا عليها إذا قصدنا بذلك وجه الله تعالى -.
وإن اختلفت ظنوننا أثبنا على قصودنا وكنا معذرين في ذلك كما عذر موسى صلى الله عليه وسلم في إنكاره على "الخضر" بخرق السفينة وقتل الغلام وبالغ في إنكاره بقوله: {لقد جئت شيئا نكرا} بعد: {لقد جئت شيئا إمرا} ولو اطلع موس على ما في خرق السفينة من المصلحة، وعلى ما في قتل الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من مفسدة غصبها وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما لما أنكر عليه ولساعده في ذلك،
وصوب رأيه، لما في ذلك من القربة إلى الله - تعالى - ولو وقع مثل ذلك في زماننا لكان حكمه كذلك.
ثم قال: وإنما عمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره، لأن كذب الظنون نادر وصدقها غالب ولو ترك العمل بها خوفًا من وقوع نادر كذبها لتعطلت مصالح كثيرة غالبة خوفًا من وقوع المفاسد قليلة نادرة. وإنما ذم الله - تعالى- العمل بالظن في موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد الجازم لمعرفة الإله ومعرفة صفاته. والفرق بينهما ظاهر. والحاصل أن معظم مصالح الواجب والمندوب والمباح مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية. وأن معظم مفاسد المحرم والمكروه مبني على الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية فإن قيل: ما تقولون في قوله - تعالى: - {إن بعض الظن إثم} .
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ". قلنا: إنّ الآية لم ينه فيها عن كل ظن، وإنما نهى فيها عن بعضه وهو أن يبنى على الطن ما لا يجوز بناؤه عليه مثل أن يظن بإنسان أنه زنى أو سرق أو قطع الطريق أو قتل نفسًا أو أخذ مالًا أو ثلب عرضًا فأراد أن يظن بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه، وأراد أن يشهد عليه بذلك بناء على ظنه المذكور فهذا هو الإثم. وتقدير الآية:{اجتنبوا كثيرًا من (اتباع) الظن، إن اتباع بعض الظن إثم} . ويجب تقدير هذا، لأن النهي عن الظن مع قيام أسبابه المثيرة له لا يصح، لأنه تكليف لاجتناب ما لا يطاق اجتنابه، إذ لا يمكن الظان دفعه عن نفسه مع قيام أسباب، ولن يكلف الله نفسًا إلاّ وسعها.
وأما الحديث: فإنّ التقدير فيه: إياكم واتباع بعض الظن وإنما قدر ذلك لإجماع المسلمين على وجوب اتباع الظن فيما ذكرناه، وكان قد ذكر لذلك صورًا وأمثالًا كثيرة وكذلك جواز اتباعه فيما أردناه. واتباع هذه الظنون المذكورة سبب لفلاح الدنيا والآخرة وإن ظنًا هذه عاقبته خير من علم لا يجلب خيرًا ولا يدفع ضرًا فأكرم به من ظن موجب (لرضا) الرحمن، وسكنى الجنان: وربما كان (كثير) من العلوم مؤديًا إلى سخط الديان وخلود النيران انتهى.