الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل - 33 - : عدم سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعزلة مادام قادرًا على الأمر والنهي
ولا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالعزلة وعدم الاختلاط بالناس إذا كان قادرًا على الأمر والنهي، ولم يكن في غيره كفاية، بل الحضور مع المسلمين وتكثير سوادهم في جمعهم وجماعاتهم ومشاهد الخير، ومجالس الذكر، وعيادة مريضهم وتشييع جنائزهم وإرشاد جاهلهم وغير ذلك من مصالحهم لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واكتساب الفوائد، وتكثير الشعائر، والتعاون على البر والتقوى، وإعانة المحتاج، ونصر المظلوم.
وقمع نفسه عن الإيذاء، وصبره على الأذى من أفضل القربات وأجلُّ العبادات - كما ذكر غير واحد من العلماء.
قال النواوي رحمه الله: اعلم أن الاختلاط بالناس - على هذا الوجه - هو المختار الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - وكذلك الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الصحابة والتابعين، ومن خلفهم من علماء المسلمين وخيارهم، وهو مذهب أكثر التابعين كسعيد بن المسيب، وعامر بن شرحبيل الشعبي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن شبرمة، وشريح بن الحارث القاضي، وشريك بن عبد الله، ومن بعدهم كهشام بن عروة، وعبد الله بن المبارك، ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وتبعهم - في ذلك - جمهور العلماء رضي الله عنهم أجمعين.
قال الغزالي: (وقال أكثر التابعين: باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان للتآلف والتحبب إلى المؤمنين - والاستعانة بهم في الدين، تعاونًا على البر والتقوى).
قال النواوي: فمذهب الشافعي، وأكثر العلماء على أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن.
وقطع به في موضع - عن الإمام أحمد -.
لقوله - تعالى -: {على البرِّ والتَّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتَّقوا} انتهى.
فإن قيل: فلم لا يجب الخروج من بين الفساق؟ قيل: لأن الله - تعالى - لم يوجب
ذلك، وإنما أمر بإنكار المنكر، لكن إن عجز أحد، وشاء أن يخرج تنزهًا؛ مخافة أن يسمع ما لا يحل فذلك أفضل - قاله جماعة من العلماء - وأيضًا فإن الأنبياء لم يزالوا مقيمين بين الكفار الذين يعملون بالمعاصي، وكانوا ينهونهم، ويخبرونهم بما عليهم من عقاب الله وهم مقيمون بينهم.
فإن قيل: فإن لم يقدروا على إزالة المنكر فهل يحل لهم أن يقعدوا في الأسواق وغيرها مع ما يسمعون من المنكر؟ قيل: نعم، إذا أنكروا عليهم، ووعظوهم فانتهوا لم يكن في قعودهم ضرر، إذا كانوا منكرين بألسنتهم وقلوبهم.
وروى البيهقي من حديث (أبي صغير) عسعس بن سلامة التيمي (بفتح العينين وإسكان السينين التيمي رضي الله عنه أن رجلًا أتى الجبل يتعبد ففقد وطلب فوجد فجيء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (لا تفعل أنت ولا أحد منكم، لصبر أحدكم ساعة من نهار في بعض مواطن الإسلام خير من عبادته خاليًا أربعين عامًا).
ورواه شعبة عن الأزرق بن قيس. قال: سمعت عسعس بن سلامة يقول بذلك فذكره.
وفي جامع الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: غزونا على الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله خير من صلاته بسبعين عامًا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلوا الجنة؟ اغزوا في سبيل الله فإنه من قاتل في سبيل الله فواق ناقة أدخله الله الجنة).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
رواه الحاكم في المستدرك وفي لفظه: ستين عامًا.
وقال: صحيح على شرط مسلم.
وفي رواية الترمذي: قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عوينة من ماء عذب فأعجبته لطيبها. فقال: لو أقمت في هذا المكان أعبد الله وأعزل شرِّي عن
الناس سأستأذن في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله ساعة أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ قالوا: نعم. فقال: فاغزوا في سبيل الله فإنه من قاتل في سبيل الله فواق ناقة؛ لتكون كلمة الله هي العليا، وجبت له الجنة).
ورواه الإمام أحمد - في المسند - ولفظه: أن رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشعب فيه عين ماء عذبة فأعجبه طيبه. فقال: لو أقمت هاهنا وخلوت. ثم قال: لا، حتى أسأل النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال:(مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من مقامه في أهله سبعين سنة. أما تحبون أن يغفر الله لكم فيدخلكم الجنة؟ جاهدوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة).
(فواق ناقة) هو ما بين رفع يد الحالب عن الضرع وقت الحلب ووضعها. قيل هو ما بين الحلبتين. والله أعلم.
وفي الترمذي، وسنن ابن ماجه من حديث يحيي بن وثاب، عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم).
ولم يسم الترمذي ابن عمر بل أبهم. قال: عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والطريق واحد.
ورواه ابن أبي الدنيا - بسنده - عن يحيى بن زياد - أيضًا- عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حسبته قال: قلت: من هو؟ قال: ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لم يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) ورواه أبو نعيم في الحلية.
وفي سنن أبي داود وغيرها من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رجلًا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).
وفي الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح قال: (زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي وهي مجاورة بثبير فسألتها عن الهجرة. فقالت: لا هجرة اليوم كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يفتن عنه فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء ولكن جهاد ونية).
وروي - أبو نعيم - في الحلية - بسنده عن الأوزاعي أنه قال: (وقد سئل أيهما أحب إليك إبراهيم بن أدهم أو سليمان الخواص؟ قال: إبراهيم أحب إليّ، لأن إبراهيم كان يخالط الناس وينبسط إليهم).
وروى عن وهب بن منبه - رحمة الله عليه - أن رجلًا قال له: هممت بالعزلة فما ترى؟ قال: (لا تفعل: بل إلى الناس حاجة وبالناس إليك حاجة ولكن كن صموتًا نطوقًا أصم سميعًا أعمي بصيرًا، فإنه لا بد لك من الناس ولا بد للناس منك).
فوائد خلطة الناس سبعة:
(قال المحققون من العلماء: وفي خلطة الناس فوائد سبعة:
الأولى: التعليم والتعلم، وهما أعظم العبادات، كما قال بعض السلف: هداية الخلق أفضل من كل عبادة، كما جاء في غير حديث.
ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه، عاص بالعزلة إذ لا تليق العزلة إلا بالعالم.
الفائدة الثانية: النفع والانتفاع، أما النفع فإنه ينفع الناس إما بماله أو ببدنه فيقوم بحاجاتهم على سبيل الحسبة.
ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب عظيم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة الآتي جملة منها - في الباب التاسع -.
وذلك لا ينال إلا بالمخالطة فمن قدر عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من
العزلة؛ لأن الأدب في القيام بحقوق الخلق هو عدم الإفراط بحيث يشتغل بها عن حقوق الله أو عن تكميلها أو عن مصلحة دينه وقلبه وأن لا يقصر في شيء منها فيعطلها بالكلية، فإن الطرفين من العدوان الضار والله لا يحب المعتدين. ومتى اعتزل الناس ضاعت الحقوق وانقطعت الأرحام فلا يترك حق الباطل.
وأما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة - أيضًا - والمحتاج إليه مضطر إلى ترك العزلة وكذلك إذا اكتسب من وجهة وتصدق وأنفق على عياله فهو أفضل من العزلة.
الفائدة الثالثة: التأديب والتأدب، أما التأدب فهو الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في تحمل أذاهم؛ كسرًا للنفس وقهرًا للشهوات وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخاطبة وذلك أفضل من العزلة. وأما التأديب فهو أن يروض غيره وذلك حال شيخ المتصوفة معهم، فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخالطتهم، وحاله حال المعلم وحكمه حكمه.
الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس وهو غرض من يحضر الولائم والدعوات ومواضع المعاشرة والأنس فقد يستحب ذلك لأمر الدين وذلك فيمن يستأنس بمشاهدة أقواله وأحواله في الدين كالأنس بالمشايخ الملازمين لسمت التقوى. ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب بتهييج دواعي النشاط في العبادة، فإن القلوب إذا أكرهت عميت ومتى كان في الوحدة وحشة وفي المجالس أنس يروح القلب فهو أولى، إذ الرفق في العبادة من حزم العبادة فهو أمر لا يستغنى عنه، فإن النفس لا تألف الحق على الدوام ما لم تروح وفي تكليفها الملازمة تفتير. قال صلى الله عليه وسلم:(ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس فلا يستغني الناس إذا عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته فهذا النوع من الاستئناس في بعض أوقات النهار ربما يكون أفضل من العزلة في حق بعض الأشخاص. والله أعلم.
الفائدة الخامسة: نيل الثواب وإنالته، أما نيله فمثل حضور الجنائز، وعيادة المرضى والإعانة على البر والتقوي وحضور مجلس علم وقضاء حاجة وحضور العيدين، وأما الجمع والجماعات في سائر الصلوات فلا بد منها إلا لخوف ضرر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه كما ذكر العلماء في مواطنه، وكذلك في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وكذلك في حضور الولائم والدعوات ثواب من حيث إدخال السرور على قلب المسلم.
وأما إنالته الثواب، فهو أن يفتح الباب ليعوده الناس أو يعزوه في المصائب أو يهنئوه على النعم، فإنهم ينالون بذلك ثوابًا وكذلك إذا امتنعوا عن المعاصي بأمره ونهيه. وأما إذا كان سببًا لاجتماع الناس على طاعة الله من صلاة وذكر وغيره أو هداية ضال ونحوه فذلك الغاية القصوى.
الفائدة السادسة: من فوائد المخالطة: التواضع؛ لأنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة وقد يكون الكبر سببًا في اختيار العزلة. كما روي في الإسرائيليات: أن حكيمًا من الحكماء صنف ثلاثمائة وستين كتابًا في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند الله منزلةً فأوحى الله - تعالى - إلى نبي زمانه أن قل لفلان: قد ملأت الأرض نفاقًا وإني لا أقبل من نفاقك شيئًا. قال: فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال: الآن قد بلغت محبة ربي فأوحى الله إلى نبيه. أن قل له: بإنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم فخرج فدخل الأسواق وخالط العامة وجالسهم وواكلهم فأوحى الله تعالى - إلى نبيه. أن قل له: الآن قد بلغت رضاي.
قال الغزالي: فكم من معتزل في بيته وباعثه التكبر ومانعه من المحافل أن لا يوقر ولا يقتدي به، ويري الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله.
الفائدة السابعة: التجارب، فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم والعقل الغريزي ليس كافيًا في تفهم مصالح الدين والدنيا وإنما تفيدها التجربة والممارسة ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب. ومن أهم التجارب أن يجرب الإنسان نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة؛ فإن كل غضوب أو حقود أو حسود أو بخيل أو متكبر إذا لم يخالط الناس لم تتحقق هذه الصفات من نفسه ولا يدركها وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثال دمل ممتلئ بالقيح والمدة وقد لا يحس صاحبه بألم ما لم يتحرك أو يمسه غيره فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن معه من يحركه أو يمسه ربما يظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه واعتقد فقده ولكن لو حركه محرك أو أصابه مشرط حجام لانفجر منه القيح وفار فوران الشيء المحتقن إذا حبس عن الاسترسال فكذلك القلب المشحون بهذه الأخلاق الذميمة إنما تنفجر خبائثه إذا حرك، فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإطهارها ولذلك قيل:(السفر يسفر عن الأخلاق) فإنه نوع من المخالطة الدائمة ثم قال الغزالي: وستأتي فوائد هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات فإنه بالجهل بها يحبط العمل الكثير وبالعلم بها يزكو العمل القليل.