الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر الحافظ عبد الغني- عن عبد الله بن محمد الباهلي، قال: جاء رجل إلي سفيان الثوري فقال: إني أريد الحج فقال: لا تصحب من يتكرم عليك، ساويته أضر بك، وإن تفضل عللك استذلك.
ولبعصهم:
أطعت مطامعًا فأفدت ذلًا
…
وخير من تذلك القنوع
فمن طمع ف الخلق لم يخل من الذل والخيبة. وإن وصل إلي المراد لم يخل عن المنة والمهانة.
فكيف تتعلق يا عبد الله برجاء كاذب، ووهم فاسد؟ قد يصيب وقد تخطئ، فإذا أصاب فلا تقي لذاته بألم منته ومذلته.
ولبعضهم:
أزلت مطامعي وأرحت نفسي
…
فإن النفس ما طمعت تهون
فمن لم يكن متورعًا عما في أيدي الناس ومتورعًا في أمره ونهيه عن الميل إلي الهوى فإن كلامه لا يصير مقبولًا. والناس يهزؤن به إذا أنكر عليهم وربما أورث ذلك جرأة عليه من المأمور. كما سيأتي في وضعه- من الباب الخامس- والله أعلم.
فصل (4): وجوب اتصاف الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر بحسن الخلق:
وأما وجوب اتصاف الآمر بحسن الخلق، فليتمكن الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر من الرفق، وسعة الصدر واللطف والحلم، وذلك أصل الأمر بالمعروف والنهي وأساسه وهو نتيجة حسن الخلق. فمن (شأن) المعلم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر التحلي بمكارم الأخلاق وسعة الصدر ليتحمل جفاء العامة وغلظهم له فوجب أن يكون المعلم هو الآمر الناهي محل الفضائل وسعة الصدر. وقد علمنا ثناء في الكتاب والسنة علي حسن الخلق، فمن ذلك ومن ثناء الكتاب والسنة علي حسن الخلق:
قال الله تعالي: {فبما رحمة من الله من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} .
وقال- سبحانه لأكرم الخلق عليه، ومظهرًا لأنعمه لديه، ومفصحًا في كتابه الكريم:{وإنك لعلى خلق عظيم} .
فتخصيصه- تعالي- الخلق بالذكر فيه تخصيص عظيم وإرشاد بليغ علي تحصيل ذلك والإتصاف به في كل الأحوال الممدوحة شرعًا.
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحسن الناس خلقًا).
وفيهما، وفي مسند أحمد، وجامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا. وكان يقول: (إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا).
قال الترمذي: حديث حسن صحيح-.
ورواه ابن أبي الدنيا- بالشطر الأول- كما سيأتي.
ولأحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟ ) فسكت فأعادتها مرتين أو ثلاثًا. فقال القوم: نعم يا رسول الله. قال: أحسنكم أخلاقًا.
وفي مسند أحمد-أيضًا- من حديث ابن مسعود- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم كما أحسنت خلقي فحسن خلقي).
وفي صحيح مسلم، وجامع الترمذي من حديث النواس بن سمعانا لكلابي- رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم. فقال: البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس منك".
ولفظ الترمذي: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وفي سنن أبي داود، وجامع الترمذي، سنن النسائي، وصحيح الحاكم من حديث هريرة- رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، أي المؤمنين أفضل إيمانًا؟ قال:(أحسنهم خلقًا).
وفي مسند أحمد، وجامع الترمذي، وصحيح الحاكم من حديث عائشة مرفوعًا:(إن أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وألطفهم بأهله).
وفي مسند أحمد، وسنن أبي داود وصحيحي ابن حبان والحاكم من حديث عائشة مرفوعًا. "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم".
وفي مسند أحمد، وسنن أبي داود، وجامع الترمذي، وصحيح ابن حبان من حديث أبي الدرداء مرفوعًا:"ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن".
زاد الترمذي: "وإن صاحب حسن الخلق، ليبلغ به درجة صاحب الصوم والصلاة".
وزاد في رواية أخري: "وإن الله يبغض الفاحش البذيء".
وقال فيه: حديث حسن صحيح.
وزاد "أحمد" في رواية أخري: "من أعطي حظه من الرفق، أعطي حظه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخلق الحسن".
قال أهل اللغة: البذيء الذي يتكلم بالفحش ورديء الكلام. وفي جامع الترمذي- أيضًا- من حديث أبي ذر مرفوعًا: اتق الله (حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن).
وروي الترمذي عن (معاذ) نحوه.
وفي شعب الإيمان للبيهقي بسنده عن الأصمعي قال: سمعت ابن المبارك يقول منشدًا:
خالق الناس بخلق حسن
…
ولا تكن كلبًا علي الناس يهر
وروي الإمام أحمد، والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يلج به الناس الجنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسن الخلق) هذا لفظ أحمد.
وللترمذي، وابن ماجه: قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الجنة. قال: (تقوي الله وحسن الخلق) الحديث.
وروى أبو الشيخ بن حيان- في كتاب الثواب- بسنده عن عائشة مرفوعًا. "ما جبل ولي لله- عز وجل إلا علي السخاء وحسن الخلق".
وروي البزار، وأبو يعلى الموصلي، والحاكم، والخرائطي في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب، وابن عدي في الكامل. من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه مرفوعًا:"إنكم لا تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
قال الحاكم: صحيح الإسناد.
وفي المعجم الأوسط للطبراني من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما حسن الله خلق امريء، وخلقه فتطمعه النار).
ورواه ابن أبي الدنيا، والبيهقي- في الشعب، والخرائطي- أيضًا- في مكارم الأخلاق وغيرهم.
قال العلماء: الخلق الصورة الظاهرة، والخلق الصورة الباطنة.
وفي سنن ابن ماجه، وغيرها من حديث أبي ذر مرفوعًا:"لا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق".
وفي المعجم الأوسط للطبراني من حديث عمران بن حصين مرفوعًا: "إن الله استخلص هذا الدين لنفسه فلا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بها". ورواه الأصبهاني مرفوعًا: (جاء حبريل فقال: يا محمد إن الله استخلص هذا الدين لنفسه
…
فذكره).
وروي الإمام مالك بن أنس- في الموطأ- من حديث معاذ بن جبل- رضي الله
عنه- قال: كان آخر ما أوصاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وضعت رجلي في الغرز أن قال: "يا معاذ حسن خلقك للناس".
قال أهل اللغة: (الغرز) ركاب كور الجمل إذا كان من جلد، فإن كان من خشب أو حديد فهو ركاب. كما سبق بيانه.
وروي أبو القاسم الطبراني، والأصبهاني- بسنديهما- عن أبي هريرة مرفوعًا:"أوحي الله- عز وجل إلي إبراهيم عليه السلام يا خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار، تدخل مدخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي، وأن أسقيه من حظيرة قدسي، وأن أدنيه من جواري "اللفظ للطبراني".
وفي مسند البزار، وغيره من حديث أنس "مرفوعًا""ثلاث من كن فيه استوجب الثواب واستكمل الإيمان خلق يعيش به الناٍس، وورع يحجزه عن محارم الله، وحلم يرد به جهل الجاهل".
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اتقي الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون.
وروي الطبراني في الكبير، والخرائطي في مكارم الأخلاق، وأبو الشيخ بن حيان- في كتاب طبقات الأصبهانيين- من حديث أنس مرفوعًا:(إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة، وإن العبد ليبلغ بسوء خلقه أسفل من درك جهنم).
وقال أبو علي الفضيل بن عياض- قدس الله روحه- لأن يصحبني فاجر حسن الخلق، خير لي من أن يصحبني عابد سيء الخلق.
وقال أبو القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله (أربع ترفع العبد إلى أعلى) الدرجات
وإن قل علمه وعمله: الحلم والتواضع، والسخاء وحسن الخلق حسنة لا يضر معها كثير السيئات، وهو كمال الإيمان.
وقال يحيي بن معاذ الرازي- قدس الله روحه- حسن الخلق حسنة لا يضر معها كثير السيئات، وسوء الخلق سيئة لا ينفع معها كثير الحسنات.
وقال- أيضًا- في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
وسئل ابن عباس عن الحسب، فقال: {أحسنكم أخلاقًا أفضلكم حسبًا).
قال بعض المفسرين- في قوله تعالي: {وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنه
…
}.
الظاهرة تسوية الخلق، والباطنة تسوية الخلق فالجود بالخلق الحسن والبشر والبساطة من أعلي مراتب الجود، وهو فرق الجود بالصبر والاحتمال والعفو، وهو الذي يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، ولا شيء أثقل في الميزان منه- كما تقدم في حديث أبي الدرداء- والناس يختلفون في علامة حسن الخلق ما هي؟
فروي البيهقي- في شعب الإيمان- بسنده، عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعًا. "عليك بحسن الخلق". قال: وما حسن الخلق؟ قال: "تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك".
وروي الترمذي بسنده- عن عبد الله بن المبارك- رحمه الله أنه وصف حسن الخلق، فقال: هو بسط الوجه وبذل المعروف، وكف الأذي.
وروي عن الحسن البصري مثله.
وروي التيمي صاحب الترغيب والترهيب- بسنده- عن أحمد بن إسحاق بن منصور قال: سمعت أبي يقول: قلت لأحمد بن حنبل- رحمه الله: ما حسن الخلق؟ (قال) هو أن يحتمل ما يكون من الناس قريبًا.
وقال هل بن عبد الله التستري: أدناه الحياء. وترك المكاره، والرحمة للظالم، والاستغفار له والشفقة عليه.
وقيل أن لا يخاصم أحدًا من شدة معرفته بالله - تعالي-.
وقيل: أن يكون من الناس قريبًا، وفيما بينهم غريبًا.
وقيل: أن لا يؤثر (فيه) جفاء الخلق بعد مطالعته للحق.
وقيل: قبول ما يرد عليه من جفاء الخلق وقضاء الحق بلا ضجر ولا قلق.
وقال بعض السلف: (أولى ما يمتحن (به) حسن الخلق الصبر علي الأذى، واحتمال الجفاء).
وقيل: بذل الجميل، وكف القبيح.
وقد جمع بعضهم علامات حسن الخلق. فقال: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، قليل الفساد، صدوق اللسان قليل الكلام، كثير العمل، قليل الذلل، قليل الفضول برًا وصولًا رضيًا شكورًا حليمًا رفيقًا عفيفًا شفوقًا. لا لعانًا ولا سبابًا ولا نمامًا ولا شتامًا ولا مغتابًا ولا عجولًا، ولا حقودًا ولا بخيلًا ولا حسودًا، هشاشًا بشاشًا يحب الله ويبغض في الله ويرضى لله ويبغض لله.
فهذا هو حسن الخلق.
قال يوسف بن أسباط: (علامة حسن الخلق عشرة أشياء. قلة الخلاف وحسن الإنصاف وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرات، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس، والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للكبير والصغير ولطف الكلام لمن دونه وفوقه).
ومدار حسن الخلق مع الخلق ومع الحق على أمرين ذكرهما شيخ مشايخنا عبد القادر الكيلاني - قدس الله روحه- قال: كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس، وقال بعض المحققين (حسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يتصور قيام ساقه إلا عليها. الصبر والعفة والشجاعة والعدل، فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة، والعفة تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله علي الحياء وهو رأس كل خير ويمنعه من الفحش والكذب والغيبة وغير ذلك.
والشجاعة تحمله على عزة النفس وقوتها، وإيثار معالي الأخلاق والشيم على الندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها، وتحمله على كظم الغيظ والحلم وتحمله علي إيثار معالي الأخلاق والشيم. وعلي شجاعة النفس وقوتها.
فإنه بقوة نفسه وشجاعتها، يمسك عنانها ويمنعها عن البطش.
كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وسيأتي الحديث- قريبًا بأتم من هذا.
والعدل: يحمله علي اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط. وملاك هذه الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة. فيتولد من إفراطها في الضعف، المهانة والبخل والخسة واللؤم والذل والحرص والشح وسفساف الأخلاق.
ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحسد والفحش والطيش.
ويتولد من (تزوج) أحد الخلقين بالآخر أولاد كثيرون، فإن النفس قد تجمع قوة وضعفًا، فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر. ظالم عسوف جبار فإذا قهر صار أذل من امرأة جبانة على القوى. جبار على الضعف. فالأخلاق الذميمة يولد بعضها بعضًا، وكذلك الأخلاق الحميدة. وكل خلق محمود يكتنف أي يحاط بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما .. [فالمراد كل فضيلة وسط بين رذيلتين].
وسيأتي الكلام علي شيء من ذلك- في الباب السادس -إن شاء الله تعالي. والمقصود، أن حسن الخلق أصل كبير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو أساسه، لأن سبب الغضب هجوم ما تكرهه النفس ممن هو دونها.
فالحادث عند السطوة والانتقام إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع ما لم يكن في الطبع قبول له بحسن الخلق.
وعلى التحقيق، فلا يتم الأمر والنهي إلا مع حسن الخلق (والقدرة علي ضبط الشهوة والغضب ويحتاج ذلك إلى قوة دينية، وقد جاء ذم سوء الخلق) في غير ما حديث مأثور، وأثر صحيح مشهود. ومن أمثلتها، ما روى الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري.