الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سبق الكلام على معنى ذلك في درجات الأمر والنهي- من الباب الثاني- والله أعلم.
فصل (13): وجوب اتصاف الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر بالحلم والعفو
وأما الحلم والعفو فمن أهم الأخلاق للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، ويدل على فضيلة ذلك والندب إليه، ما تقدم في فضيلة الرفق من الآيات الكريمات، والأحاديث الصحاح المروريات، قال أكثرها مشتركة بين الرفق والحلم والعفو.
وقال تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتَّى يأتي الله بأمره إنَّ الله على كل شيءٍ قدير} .
قال أهل التفسير: (العفو ترك المؤاخذة والصفح إزالة أثره من النفس).
وقال تعالى: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} . وقال تعالى: {ومغفرة خيرٌ من صدقةٍ يتبعها أذى والله غنيُّ حليمٌ} .
قال الكلبي والضحاك: وتجاوز عن ظالمه "خير من صدقة يتبعها أذى". أي من وتعيير للسائل بالسوائل. وقول يؤذيه.
{
…
والله غنيُّ} أي مستغن عن صدقة العباد {حليمٌ} لا يعجل بالعقوبة. وقيل: يحلم ويعفو ويصفح ويتجاوز عنهم مع شدة إساءتهم وعظيم إحسانه.
وقال تعالى: {والكاظمين الغيظ} . قال المفسرون: (كظم الغيظ رده في الجوف أي سكت عنه ولم يظهر قدرته على إيقاعه بعدوه).
{والعافين عن الناس} أثنى سبحانه- على الكاظمين الغيظ بعفوهم عن الناس لتركهم المؤاخذة وهو قول الواحدي.
قال بعضهم هو أجل ضروب فعل الخير، حيث يجوز للإنسان أن يعفو أو يحلم وأخبر- بعد ذلك- أنه يحبهم بإحسانهم.
وقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} .
(أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بتدريج بليغ، وذلك أنه أمره بأن يعفو عنهم ما له في خاصته عليهم من تبعة، فلما صاروا في هذه الدرجة أمره أن يستغفر فيما لله عليهم من تبعة- أيضًا- فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور).
وهي من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} .
وقال تعالى: {إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًا قديرًا} أي إن تظهروا أيها الناس خيرًا، أو أخفيتموه، أو عفوتم عمن أساء إليكم، فإن ذلك مما يقربكم عند الله، ويجزل ثوابكم لديه.
وقال تعالى: {ولا تزال تطَّلع على خائنةٍ منهم إلَّا قليلًا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحبُّ المحسنين} .
وقال تعالى- حكاية عن يوسف وإخوته- عليهم السلام حين قالوا: {
…
تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين} (أي مذنبين {قال لا تثريب عليكم} أي لا تعيير ولا توبيخ ولا لوم عليكم اليوم وقيل: لا إفساد لما بيني وبينكم من الحرمة وحق الأخوة، ولكم عندي العفو والصفح {يغفر الله لكم} أي يستر عليكم ويرحمكم).
وقال- تعالى- لنبينا- صلى الله عليه وسلم: {فاصفح الصَّفح الجميل} (أي تجاوز عنهم، واعف عفوًا حسنًا. قال بعض المفسرين: أمر صلى الله عليه وسلم بالصفح في حق نفسه فيما بينه وبينهم) وقال
- تعالى-: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسَّعة
…
} أي ولا يحلف أولو الغنى والجدة يعني أبا بكر الصديق- رضي الله عنه {
…
أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهجرين في سبيل الله} يعني مسطحًا ابن خالته أن لا ينفق عليه بعد ذلك فأنزل الله هذه الآية.
فإن أبا بكر كان ينفق على مسطح فلما شارك في حديث الإفك كف عن النفقة عليه فعاتبه الله فرجع ثم أمره- سبحانه- بالعفو والصفح عن الخوض في أمر عائشة فقال: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبُّون أن يغفر الله لكم} فلما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورد على مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا.
وقال- تعالى: {وعباد الرحمن .... } (أي أفاضل العباد) {الَّذين يمشون على الأرض هونًا
…
} رفقًا.
قال الحسن: (علماء حلماء. وقال محمد بن الحنفية: أصحاب وقار لا يسفهون، وإن سفه عليهم حلموا:{وإذا خاطبهم الجهلون} يعني السفهاء بما يكرهون {
…
قالوا سلمًا} قال مجاهد سدادًا من القول.
وقال مقاتل بن حيان: قولًا يسلمون فيه من الإثم. وقال الحسن: إن جهل عليهم جاهل حلموا ولم يجهلوا.
وقال بعض العارفين: (من خاطبهم بالقدح فيهم جاوبوه بالمدح له. وقال غيره: إذا خاطبهم الجاهلون بأحوالهم، الطاعنون فيهم، العائبون لهم قابلوهم بالرفق وحسن الخلق، والقول الحسن).
وقال تعالى: {وإذا مُّروا باللَّغو مرُّوا كرامًا} قال مقاتل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه. وقال الحسن والكلبي: اللغو المعاصي كلها. يعني إذا مروا بمجالس اللغو واللهو والباطل مروا كرامًا مسرعين معرضين. يقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه عنه وأكره نفسه عنها. وقال مجاهد: إذا أوذوا صفحوا. رواه ابن أبي الدنيا.
وقال تعالى: {فسقى لهما ثمَّ تولَّى إلى الظّل فقال ربّ إنّي
…
}.
قال مقاتل: يدفعون ما سمعوا من الأذى والشتم من المشركين بالصفح والعفو {وممَّا رزقنهم ينفقُّون} أي في الطاعة {وإذا سمعوا اللَّغو أعرضوا عنه
…
} أي القبيح من القول وذلك أن المشركين كانوا يسبون مؤمني أهل الكتاب ويقولون: "تبًا لكم تركتم دينكم فيعرضون عنهم ولا يردون عليهم" {
…
وقالوا لنا أعمالنا ولكم} أي لنا ديننا {ولكم أعمالكم} ولكم دينكم .. سلام عليكم.
أي سلام المتاركة ومعناه: سلمتم منا لا نعارضكم بالشتم القبيح {
…
لا نبتغي الجاهلين} قيل: لا يريد أن يكون من أهل الجهل والسفه.
وقال تعالى: { .. وإذا ما غضبوا هم يغفرون} .
قال ابن عباس: شتم رجل من المشركين أبا بكر فلم يرد عليه شيئًا فنزلة الآية. ومعناها: يكظمون الغيظ ويتجاوزون ويحلمون، وذلك من محاسن الأخلاق يطلبون ثواب الله- تعالى- فمدحهم بقوله:(وإذا ما غضبوا هم يغفرون).
وأنشد بعضهم:
إني غفرت لظالمي ظلمي
…
ووهبت ذلك له على علمي
ما زال يظلمني وأرحمه
…
حتى بكيت له من الظلم
وقال تعالى: {وجزؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها .. } سمى الجزاء سيئة وإن لم يكن سيئة، لتشابههما في الصورة. قال مجاهد والسدي هو جواب القبيح ثم ذكر- سبحانه- العفو فقال: {فمن عفا
…
} أي ظالمه { .. وأصلح .. } بالعفو بينه وبينه { .. فأجره على الله .. } . وفي الخبر الآتي قريبًا: إنه ينادي يوم القيامة يقم من له أجر على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا.
وقال- تعالى-: {يأيُّها الَّذين ءامنوا إنَّ من أزواجكم وأولدكم عدوًا لَّكم
فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفورٌ رحيم} فلا تعاقبوهم على خلافهم إياكم {فإنَّ الله غفورٌ رحيم} .
وقال تعالى: {ولمن صبر وغفر
…
} أي ظلم فلم ينتصر { .. إنَّ ذلك لمن عزم الأمور} أي ذلك الصبر والتجاوز (لمن عزم الأمور) من حق الأمور التي أمر الله بها.
وأما أحاديث الحلم ففي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما في حديث طويل وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشج عبد القيس:(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).
ورواه أبو داود من حديث مطر بن عبد الرحمن العبدي الأعنق، قال: حدثتني أم أبان بن الوازع بن زارع، عن جدها زارع وكان في وفد عبد القيس "قال: وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلنا نتبادر من رواحلنا، فنقبل يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجله، وانتظر المنذر الأشج حتى أتى عليه فلبس ثوبه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والإناة) قال: يا رسول الله، أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال:(بل الله جبلك عليهما).
قال: الحمد لله الذي جبلني على خصلتين يحبهما الله ورسوله.
ورواه الترمذي مختصرًا.
ورواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري.
ورواه مسلم، وأحمد بأتم من هذا.
والأشج عبد القيس هو المنذر بن عمرو. وقيل عائذ بن عمرو. وقيل عبد الرحمن بن
عوف. وقيل المنذر بن الحارث. والحلم: العقل. وقيل: حالة توقر وثبات عند الأسباب المحركات، والاحتمال وحبس النفس عند الآلام والمؤذيات، ومثله الصبر.
والأناة (بغير مد) هي التثبت وترك العجلة- كما سيأتي- والله أعلم.
وفي معجم الطبراني من حديث فاطمة مرفوعًا: "إن الله يحب الغني الحليم المتعفف".
وورى البزار من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله يحب الغني الحليم المتعفف".
وورى الحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا: وما هي؟ قال: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتحلم على من جهل عليك.
وروى الطبراني- في المعجم الأوسط- من حديث علي مرفوعًا: "إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنه ليكتب جبارًا عنيدًا وما يملك إلا أهل بيته".
وورى ابن أبي الدنيا- بسنده، عن عبد الوارث، عن أنس بن مالك- رضي الله عنه في قول الله- تعالى:{فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} إلى قوله: { .. عظيم} قال: الرجل يشتمه أخوه، فيقول: إن كنت صادقًا يغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا يغفر الله لك.
وروى الإمام أحمد في الزهد عن معاوية بن قرة، قال: قال أبو الدرداء- رضي الله عنه ليس الخير أن يكثر مالك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، وأن يكثر علمك، وأن تبادر الناس في عبادة الله- تعالى. عز وجل.
وبسنده، عن الفضيل بن عياض- قدس الله روحه- قال: كان يقال: من أخلاق الأنبياء الأصفياء الأخيار الطاهرة قلوبهم ثلاثة: الحلم والإناة وحظ من قيام الليل.
وروى الأصبهاني وغيره من حديث عائشة مرفوعًا: "وجبت محبة الله على من أغضب فحلم".
وروى ابن أبي الدنيا- بسنده- عن ييحى بن سعيد القطان. قال: قال أبو الدرداء- رضي الله عنه أدركت الناس ورقًا لا شوك فيه، فأصبحوا شوكًا لا ورق فيه، إن نقدتهم نقدوك، وإن تركتهم لا يتركوك. قالوا: فكيف نصنع؟ قال: تقرضهم من عرضك ليوم فقرك.
وفي الزهد للإمام أحمد- بسنده عن الربيع بن خيثم- رحمة الله عليه- أنه قال: الناس رجلان مؤمن وجاهل، فأما المؤمن فلا تؤذه وأما الجاهل فلا تجاره.
وأنشدوا:
ومن بسط اللسان على سفيه
…
كمن دفع السلاح إلى العدو
وروى ابن أبي الدنيا- بسنده- عن عمرو بن العاص- رضي الله عنه قال: ليس الحليم أن يحلم عمن يحلم عنه، ويجاهل من يجاهله ولكن الحليم من يحلم عمن لا يحلم عنه، ويحلم عمن جاهله.
وروى البيهقي- في الشعب- بسنده، عن قتادة في قوله- تعالى- {ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} قال:(هذا في الخماشة تكون بين الناس). فأما إن ظلمك فلا تظلمه، وإن حرمك فلا تحرمه، وإن خانك فلا تخنه، وإن فجر بك فلا تفجر به، فإن المؤمن هو الموفي المؤدي، وإن الفاجر هو الخائن الغادر.
والخماشة- ما ليس له أرش معلوم من الجراحات. والله أعلم. وبسند البيهقي، عن الحسن البصري في قوله- تعالى-:{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا} قال: السلام عليكم على الأرض.
قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: إني لأعلم أجود الناس وأعلم الناس، أجود الناس من أعطى من حرمه، وأجود الناس من عفا عمن ظلمه.
وفي الشعب للبيهقي- بسنده، عن الأحنف بن قيس قال:
ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وبر من فاجر، وشريف من دنيء.
وقال ابن عباس- رضي الله عنه: ثلاثة من لم تكن فيه واحدة منهن فلا يعتد بشيء من علمه: تقوى تحجزه عن معاصي الله، وحلم يكف به السفيه، وخلق يعيش به في الناس.
وقال لقمان لابنه: يا بني ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن: الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، والأخ عند الحاجة.
وقال الحسن البصري- رحمة الله عليه- المؤمن حليم لا يجهل، وإن جهل عليه حلم، ولا يظلم وإن ظلم غفر، ولا يقطع وإن قطع وصل.
وروى أبو بكر البيهقي- في مناقب الإمام أحمد- عن عمار بن زائدة- رحمة الله عليه- قال: العافية عشرة أجزاء (تسعة منها في التغافل، فحدثت به أحمد فقال: العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل).
وروى- أيضًا- في الشعب- بسنده، عن الأعمش. قال: السكوت جواب والتغافل يطفئ شرًا كبيرًا، ورضا المتجني غاية لا تدرك، واستعطاف المحب عون الطفر، ومن غضب عمن لا يقدر عليه طال حزنه.
وذكر أبو عبد الله القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالَّتي هي أحسن
…
}. أن رجلًا شتم قنبرًا مولى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه فناداه: يا قنبر دع شاتمك، واله عنه ترضي الرحمن وتسقط وتسخط الشيطان، وتعاقب شاتمك، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت.