الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما قال الإمام أحمد واستدل بقول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل في الهواء حين رمي بالمنجنيق. وقال له: ألك حاجة؟ فقال له: أما إ ليك فلا.
قال بعض السلف: الدنيا دار ابتلاء فصابروها وقنطرة محنة فاعبروها فالبلاء ريحان أرواح العارفين والفناء نعيم أسرار الواصلين.
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني .. أخوه الذي تطوى عليه جوانحه
وأقبل ميسور الزمان لأنني .. أرى العيش مقصورًا على من يسامحه
البلاء والولاء نجمان طلعا في فلك السعادة والمحبة وردتان لمتعافى غصن القرب، يا من لا يصبر للبلاء على كلمة أين أنت من أقوام يتلقفون البلاء بأكف الرضا.
وأنشدوا:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني
…
صبرت على شيء أمر من الصبر
وما صبر صبر الصبر صبري وإنما
…
صبرت لأجل الصبر مذ خانني صبري
فهيات قاموا وقعدت، ووصلوا وتباعدت زاحم القوم مهما استطعت واستغث بساقة الركب فقد انقطعت واجتهد في خلاصك - فقد وقعت.
صبر القوم قليًلا واستراحوا طويًلا.
فسبحان من يجبر الكسير ويعز الحقير وينصف المظلوم ويكشف المغموم فلا ييئس المظلوم من الانتصار ولا يعول المقهور إلا على الاصطبار فإن في مطاوئ الأقدار تقليب ما في الليل والنهار.
فصل (47): وقوع المحن على قدر قوى الآمرين الناهين ومراتبهم:
والمحن طهارة للصادقين وكفارة على قدر صدقهم
ووقع المحن على قدر قوى الآمرين والناهين ومراتبهم أما العارفين فإن وقوعها بهم عند ملاحظتهم أنفسهم في الأم والنهي.
وأما الصادقين فإن وقوع المحن بهم طهارة لهم وكفارة على قدر قوة صدقهم محبة الله تعالى لهم يعرفهم بها أنفسهم ويرفعهم في درجاتهم.
وأما بعض الآمرين فإن وقع المحن بهم طهارة لهم وكفارة وذلة ليزول عنهم العجب
بذلك وأما جملة الناس من الآمرين والناهين فإن الله عز وجل امتحنهم لتعديهم حدوده وتضييعهم أمره وشماتتهم بغيرهم
قال الله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} .
فعلى قدر تضييعه وتقصيره يكون ردهم عليه وامتناعهم من القبول منه وعلى قدر ما يلحقه من خوف المخلوقين يكون تسلطهم عليه وعلى قدر توكله عليهم في معاونته ورجائه بهم يكون بعدهم عتنه فيوكل إليهم وعلى قدر محبة النفس للدنيا والثناء والتصنع يلحقه الضعف عند رؤية المنكر لأن القلب لا يحتمل الموارد عليه فيهيج من الغضب فعون الله تعالى للعبد على قدر صدقه في مجاهدته. وعلى قدر ثباته يستحق التثبيت من الله تعالى: { .. ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا} .
وعلى قدر إخلاص الآمر وإياسه من معاونة الخلق يكون نصر الله له.
وعلى قدر معرفته أن الخلق مأمورون مسلطون لم يملكهم ضرًا ولا نفعًا لأنفسهم ولا لغيرهم يكون قيامه بالحق عليهم بذهاب رهبتهم من قلبه قال الله تعالى: { .. وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله .. }
فمن خاف مخلوقًا فإنما صرف الضر والنفع إليه.
وعلى قدر ما يعظم الله تعالى في قدر العبد يصغر الخلق كلهم في عينه قال الله تعالى: { .. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه مننه ضعف الطالب والمطلوب} .
وعلى در إعزاز المؤمن لأم الله يلبسه الله من عزه قال الله تعالى: {يا ايها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} .
وعلى قدر صدق الصادق في البر على القيام بحقوق الله تعالى وحدوده تكون شدة محبته، قال الله تعالى:{ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم} .
وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: " إن المعونة تأتي من الله على قدر المؤنة وإن الصبر يأتي من الله على قدر البلاء"
ورواه الحسن بن سفيان بسنده ولفظه: " فينزل المعونة من السماء على قدر المؤنة وينزل الصبر على قدر المصيبة".
ابتلاهم فرضوا وصبروا وأنعم عليهم فاعترفوا وشكروا وجاؤوا بكل ما يرضى ثم اعتذروا وجاهدوا العدو بصبر فما انقشعت الحرب حتى ظفروا.
وأنشدوا:
لله در أناس أخلصوا عمًلا
…
على اليقين دانوا بالذي أمروا
أولاهم نعمًا فازداد شكرهم
…
ثم ابتلاهم فرضًا بما صبروا
فهذا المذكور في هذا الباب من صفات الأتقياء الأوفياء من الآمرين والناهين لأن من كان ناظرًا إلى الله تعالى - في جميع أحواله صغر في عينه ما سواه من خلقه إذا علم أنه لا يملك الضر والنفع سواه لا إله سبحانه هو الله.
فمن اجتمعت فيه هذه الأخلاق السابق ذكرها في هذا الباب سلك به طريق السلامة من الآفات الداخلة عليه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فعلى قدر صدق المتخلق تثبت فيه وتصير سجية له كما روي عن أبي عبد الله وهب بن منبه رحمة الله عليه أنه ما من عبد يتخلق بخلق أربعين صباحًا إلا جعله الله طبيعة فيه.
فعند ذلك ارجو أن يعان على قصده الصالح وينجح أمره ونهيه كما قال عمر بن عبد العزيز: عون الله لعبده على قدر نيته فمن تمت نيته تمت معونة الله تعالى له.
وقد حكي عن إبراهيم الخواص -قدس الله روحه- أنه خرج لإنكار منكر فنبح عليه كلب فما قدر على الوصول لمكان المنكر فرجع إلى مسجده وتفكر ساعة ثم قام فجعل الكلب يبصبص حوله ولا يؤذيه حتى أزال المنكر فسئل عما جرى له؟ فقال: إنما نبح علي لأن الفساد دخل علي في عقد نيتي بيني وبين الله تعالى فلما رجعت ذكرته فاستغفرت.
فبهذه الآداب المستحبات يصير الأمر بالمعروف لفقدها منكرًا والنهي عن المنكر زوراً مفترى.
فنسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لصالح العمل وأن ينهض -للقيام بذلك- ماضي عزمنا ويوقظ له عين حزمنا بمنة وطوله وقوته وحوله.
والحمد لله لا أبغي به بدًلا، حمدًا كثيرًا دائمًا أبدًا ثم الصلاة على خير الورى وعلى ساداتنا آله وأصحابه الفضلاء.