الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله صلى الله عليه وسلم وفهمًا في كتابه وأراه ما الناس فيه من الأهواء والباع والضلالات، وتنكبهم عن الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فإذا أراد أن يسلك هذا الصراط فليوطن نغمه على قدح الجهال وأهل البدع وطعنهم فيه، وازدرائهم به، وتغير الناس وتحذيرهم منه، كما كان الكفار يفعلون مع متبوعهم وإمامهم، فإن دعاهم إلى ذلك قدح ما هم عليه من المنكر، فهناك تقوم قيامتهم، وينصبون لهم الحبائل ويجلبون عليهم بخيلهم ورجلهم، فهو غريب في دينه، لفساد أديانهم، غريب في تمسكه بالسنة، لتمسكهم بالبدع، غريب في اعتقاده، لفاد عقائدهم، غريب في طريقه، لفساد طريقهم، غريب في معاشرته لهم، لأنه لا يعاشرهم على ما تهوى انفسهم.
وبالجملة، فهو غريب في أمور دنياه وآخرته لا يجد مساعدًا معينًا، فهو عالم بين قوم جهال، صاحب سنة بين أهل البدع، دع إلى الله ورسوله بين دعاة إلى الأهواء والبدع آمر بالمعروف ناه عن المنكر بين قوم المعروف لديهم المنكر والمنكر المعروف.
فصل (5): ابتلاء الله الفقهاء ببعض العصاة لهم:
روى أبو القاسم الطبراني وغيره من حديث أبي أمامة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لكل شيء (إقبال وإدبار) وإن من إقبال الدين ما كنتم عليه العمى والجهالة وما بعثني الله به. وإن من إقبال الدين أن تفقه القبيلة بأسرها حتى لا يوجد فيها إلا الفاسق والفاسقان فهما مقهوران ذليلان، إن تكلما قمعا وقهرا واضطهدا. ألا وإن من إدبار الدين أن يجفو القبيلة بأسرها حتى لا يرى فيها إلا الفقيه أو الفقيهان وهما مقهوران ذليلان لا يجدان على ذلك أعوانًا ولا أنصارًا). فوصف صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه يكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلًا لا يجد آعوانًا ولا أنصارًا.
وروى الطبراني- أيضًا- من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: (وإن من أشراطها أن يكون المؤمن في القبيلة أذل من النقد).
قال العلماء: النقد الغنم الصغار.
وروى الإمام أحمد - بسنده - عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لرجل من أصحابه: "يوشك إن طالت بك حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاذه في حل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منازله لا يحوز فيكم إلا كما يحوز رأس الحمار الميت".
وروى الإمام احمد -أيضًا- في كتاب الزهد- بسنده، عن عثمان بن يحيى الحضرمي. قال شكا الحواريون إلى عيسى- عليه السلام. قال: من ولع الناس بهم وبغضهم إياهم. فقال المسيح: كذلك المؤمنون مبغوضون في الناس. وإنما مثلهم مثل حبة القمح ما أحلى مذاقها وأكثر أعدائها.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا- بسنده عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: المؤمن ملجم بلجام فلا يبلغ حقيقة الإيمان حتى يجد طعم الذل.
وبسنده عن كعب الأحبار أنه قال: لتحببن إليكم الدنيا حتى تتعبدون لها ولا أهلها، وليأتينكم زمان تكره فيه الموعظة حتى يختفي المؤمن بإيمانه كما يختفي الفاجر بفجوره، وحتى يعير المؤمن بإيمانه كما يعير الفاجر بفجوره.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: سيأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من الأمة، وروى أحمد في الزهد بسنده، عن لقمان بن عامر. قال: سمعت أبا أمامة- رضي الله عنه يقول: المؤمن في الدنيا بين كافر يقاتله، ومنافق يبغضه ومؤمن يحسده، وشيطان وكل به.
وروى نحوه أبو بكر بن لال- في مكارم الأخلاق- من حديث أنس مرفوعًا: المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده، ومنافق يبغضه، وكافر يقاتله، وشيطان يضله، ونفس تنازعه.
وروى أبو نعيم - في الحلية - بسند، عن خيثمة بن عبد الرحمن وكان قوم يؤذونه تحال: إن هؤلاء يؤذونني فلا والله ما طلبني. أحد منهم بحاجة إلا قضيتها، ولا أدخلت على أحد منهم أذى، ولأنا أبغض فيهم من الكلب الأسودـ، ولم يرون ذلك إلا أنه والله لا يحب منافق مؤمنًا أبدًا.
وأنشدني فارس العربية ومالك أذمة العلوم الأدبية برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم الباعوني لنفسه:
اشكو إلى الباري أنا ساقد غدت
…
ملأي بأنواع المخازي بيوتهم
تغلي على قلوبهم حقدًا كما
…
تغلي على الجمر الكثيف قدورهم
هم يعلنون لذي اللقاء مودتي
…
والله يعلم ما تكن صدورهم
ولبعضهم:
إني بليت بقوم لا خلاق لهم
…
إن رمت إيضاح علم عندهم جهلوا
إن كنت منبسطًا سميت مسخرة
…
أو كنت منقبضًا قالوا: به ثقل
وإن تقربت قالوا: جاء يسألنا
…
وإن تزينت قالوا قد زها الرجل
من لم بخلق وخلق يرتضون به
…
لا بارك الله فيهم إنهم سفلوا
هم الكشوت فلا أصل ولا ورق
…
ولا نسيم ولا ظل ولا أثلُ
والكشوت: نبت معروف بهذه الصفة
وكان أبو الدرداء- رضي الله عنه يقول: لا يحرز المؤمن من شرار الناس إلا قبره.
وأنشدوا:
وما احد من السن الناس سالم
…
ولو انه ذاك النبي المطهر
فإن كان مقدامًا يقولون أهوج
…
وإن كان مبذالًا يقولون: مبذر
وإن كان سكيتًا يقولون: أبكم
…
وإن كان منطقيًا يقولون: مهذر
وإن كان صوامًا وباليل قائمًا
…
يقولون ساع يرائي ويمكر
فلا تحتفل في الناس بالذم والثنا
…
ولا تخشى غير الله والله اكبر
وقال عبد الله بن المبارك: ليست للمؤمن في الدنيا دولة، لأنها سجنه وبلاؤه، وإنما هو الصبر، وكظم الغيظ، وإنما دولته في الآخرة. وقيل، أوحى الله - تعالى إلى عزير: إن لم تطب نفسًا بأن أجعلك علكًا في أفواه الماضغين، لم أكتبك عندي من المتواضعين.
وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه- إلى جانب كل مؤمن منافق يؤذيه.
كما قيل:
ولن تبصري شخصًا يسمى محمدًا
…
من الناس إلا مبتلى بأبي جهل
ومما قرع الأسماع، واشتهر وذاع، ما روى القاضي أبو عبد الله محمد ين سلامة القضاعي- في مسند الشهاب- بسنده- عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لو كان المؤمن في حجر، لقيقبض الله له فيه من يؤذيه).
وروى- أيضًا - نحوه من حديث أنس مرفوعًا بلفظ: "لو أن المؤمن في حجر فأرة لقيض الله له فيه من يؤذيه".
وقال علي- رضي الله عنه: ما كان ولا يكون إلى يوم القيامة مؤمن إلا وله جار يؤذيه.
والحكمة في ذلك ما ذكر بعض المحققين: أن المؤمن ولي الله ومحبوبه، لقوله تعالى:{الله ولي الذين آمنوا} .
ولقوله: {
…
والله ولي المؤمنين}.
ولقلوله: {
…
يحبهم ويحبونه}.
فإذا أحب الله - سبحانه - عبده المؤمن، وأراد أن يختصه بالولاية عرفه للبلاء والابتلاء - كما سيأتي في فضل الصبر - من الباب الرابع إن شاء الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم بعد ان سأله سعد بن أبي وقاص: أي الناس أشد بلاء قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل
…
) الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم بعد أن قال له أبو سعيد الخدري: ما أشد حماك يا رسول الله؟ قال: (إنا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر). ثم قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال: (الأنبياء). قال ثم من؟ قال: (العلماء). قال: ثم من؟ قال: (الصالحون).وقوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون).
فكما لا يخلو الأنبياء من الابتلاء بالجاحدين، فكذلك لا يخلو الأولياء والعلماء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر عن الابتلاء بالجاهلين، لأن منزلة الآمرين بالمعروف تلي منزلة الأنبياء. كما سبق في - الباب الأول - عند قوله:{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم} .
فذكر الله - سبحانه - الذين يأمرون بالقسط بعد الأنبياء في الترتيب فقل ما انفك الأولياء وأهل الدين، من الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، عن ضروب الإيذاء، وأنوع البلاء بالإخراج من البلاد، والسعاية بهم إلى السلاطين والحكام، والشهادة عليهم بالكفر والخروج عن الدين، أو نسبتهم إلى ما يفسق من البدع والمعاصي وغير ذلك وفي كل ذلك خير لهم في الدنيا والأخرة.
وقد روى ابن أبي الدنيا - بسنده - عن أنس مرفوعًا: "إن الله - تعالى - إذا أراد بعبد خيرًا، أو أراد أن يصافيه، صب عليه البلاء صبًا" الحديث.
ورواه الأصفهاني - في الترغيب والترهيب - بأتم من هذا إلى غير ذلك من الأحاديث.
ومن جملة ما يرسله الله سبحانه وتعالى إلى عبده من البلاء، أن يقيض له ويسلط عليه من بعض خلقه من يقصده بالأذى، وكان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أوفى نصيب من ذلك كما روي من حديث جابر مرفوعًا:(ما أوذي أحد في الله ما أوذيت) ثم ألحق بحاله خواص
المؤمنين، فإن أحدهم لو اختفى في جحر ضب أو فأرة مثلًا لقيض الله له من يؤذيه كما تقدم قريبًا؛ فيفعل الله سبحانه بعبده المؤمن رفعًا لدرجاته التي لا يبلغها إلا بفوادح البلاء.
وأما في الدنيا فيذع عليه بلاؤها ومحنها حماية له من الافتتان بها، وتزهيدًا له فيها بالبلاء؛ كيلا يطمئن إليها، ويألف محبتها فيقطعه ذلك عن منازل الآخرة فيبتليه سبحانه تعويضًا له، وترسيخًا لمقام الولاء، ليضعف صورة نفسه ويذيب صفات بشريته، ويقطع بالفقر والذل عنه مواد الهدى وزينة الدنيا، فيترك فاقته وفقره بمولاه في كل بأساء وضراء، فيألف الإقبال عليه، ويستوطن المثول بهمته بين يديه بالصبر، ئم الرضا إلى أن يرفعه بذلك إلى درجات الأحباب والأولياء.
وهذا معنى قوله: (إذا أحب الله عبدًا صب عليه (البلاء) صبًا).
أي إذا أراد رفعه إلى مقام محبوبيته، سلك به طريق محنه وبلائه لأن البلاء سبك الصفات فإنه يسبك نفس عبده بنار الامتحان والابتلاء، ليصفيه من كدورات أخلاق بشريته ليصلح لولايته.
وأنشدوا:
إن كنت تزعم حبنا وهوانا .... فلتلقين مذلة وهوانا
واسمح بنفسك إن أردت وصالنا
…
واغضب عليها إن أردت رضانا
ولبعضهم:
تطرق أهل الفضل بين الورى
…
مصائب الدنيا وأفاتها
كالطير لا تحب من جنها .... إلا التي تطرب أصواتها
ولغيره الصغر يرتفع في الرياض وإنما
…
حبس الهزاز لأنه ترنم
وروى ابن أبي الدنيا - بسنده - عن يحيى بن سعد القطان، قال: بلغني أن أبي الدرداء- رضي الله عنه كان يقول: ما من يوم أصبح فيه لا يرميني الناس بداهية إلا عددتها لله علي نعمة.
وأنشد حسان بن ثابت- رضي الله عنه:
وإن امرؤ يمسي ويصبح سالمًا
…
من الناس إلا ما مفلح ومجيد