الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإلا خرج للأمر والنهي به كل قادر عليه قريبًا كان أو بعيدًا، ولا يسقط الخروج للأمر والنهي ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفروض دينه، وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه.
فصل - 35 - : في إنكار المنكر أجر عظيم وفي عدم إنكاره الإثم الكبير
وكما أن في إنكار المنكر (أجر عظيم وثواب جسيم)، فكذلك الإثم الكبير على من تركه عند وجوبه.
وقد سبق في أوائل الكتاب من الآيات الكريمات ما يدل على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذم تاركه.
ثم يذكرها هنا ما لم يذكر هناك في ذمه وتوعده.
قال الله - تعالى -: {إنَّ الَّذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للنَّاس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللَّاعنون} .
(هذا وعيدٌ شديدٌ لمن يكتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله - تعالى - في كتبه التي أنزلها على رسله).
أخبر - سبحانه - (في هذه الآية أن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ملعونون بلعنة الله أي يتبرأ منه ويبعده من ثوابه).
(واللاعنون الملائكة والمؤمنون، قاله قتادة والربيع).
وقال مجاهد وعكرمة: هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدب بذنوب علماء السوء الكاتمين فقيل: المراد بالذم كل من كتم علمًا من دين الله يحتاج إلى نشره كما هو مفسر في الأحاديث الآتية قريبًا.
وفيه دليل على أن ما كان من غير ذلك جاز كتمه.
وقال بعض العارفين: الإشارة في هذه الآية لمن كان الحق سبحانه وتعالى كاشفه بعلم من آداب السلوك ثم ظن بإظهاره للمريدين على وجه النصيحة والإرشاد استوجب المقت في الوقت، ويخشى عليه نزع البركة من علمه حتى يقصر فيه كما أخر تعليم المستحق. والله أعلم.
وفي الصحيح وغيره من حديث أبي هريرة موقوفًا: لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدًا شينًا: {إنَّ الُّذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهدى} الآية.
وسيأتي الحديث قريبًا. من رواية ابن ماجه بلفظ آخر.
ثم قال - تعالى -: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا. فبئس ما يشترون} .
قال أهل التفسير: هذه الآية توبيخ لعلماء اليهود وهو خبر عام لهم ولغيرهم. قال الحسن وقتادة: (في كل من أوتي علم شيء من الكتاب، فمن علم شيئًا من الكتاب فليعلمه وإياكم والكتمان).
وقال تعالى: {وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنًا قليلًا} .
أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم، بل يبذلون ذلك مجانًا، ولهذا قال:{أولئك لهم أجرهم عند ربهم} .
وروى ابن ماجه عن النبي: (إذا لعن آخر هذه الأمة أولها
…
فمن كتم حديثًا فقد كتم ما أنزل الله).
ثم قال - تعالى -: {إنَّ الَّذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنًا قليلًا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلَاّ النَّار ولا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكِّيهم ولهم عذاب أليم} .
يعني علماء اليهود كتموا ما أنزل الله في التوراة من صفة- محمد صلى الله عليه وسلم وصحة رسالته.
{ويشترون به} يعني بالمكتوم ثمنًا قليلًا أي أخذ الرشا وسماه قليلًا، لانقطاع مدته وسوء عاقبته.
قال المفسرون: وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأخبار فإنها تتناول من المسلمين من كتم الحق مختارًا لذلك، بسبب دينًا يصيبها.
وذكر البطون دلالة وتأكيدًا على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازًا فيعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة فأخبر عن المآل بالحال.
وقيل: يعذبهم على الكتم بالنار وعليه أكثر المفسرين.
قوله: {ولا يكلمهم الله} عبارة عن الغضب عليهم، وإزالة الرضا عنهم.
يقال: فلان لا يكلم فلانًا إذا غضب عليه. وقيل لا يكلمهم بما يحبون.
وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية.
{ولا يزكيهم} أي لا يصلح أعمالهم الخبيثة فيطرهم.
وقيل: لا يثني عليهم خبرًا.
{ولهم عذاب أليم} : أي موجع والله أعلم.
وفي سنن ابن ماجة من حديث أبي هريرة موقوفًا: والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت عنه يعني النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا أبدًا لولا قول الله -تعالى-: {إن الذين يكتمون مآ أنزل الله من الكتاب} إلى آخر الآيتين. {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} . قال بعض المفسرين هو البخل بالعلم لأن اليهود بخلوا بإظهار العلم الذي عندهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتموا ذلك، ولهذا قال:{واعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا} .
قال ابن كثير: (ولا شك أن الآية محتملة لذلك).
وروى الإمام أحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سئل علمًا يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار).
قال الترمذي: (حديث حسن).
ورواه أبو داود ولفظه: (من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة).
ولفظ ابن ماجه: (ما من رجل يحفظ علمًا فكتمه) وذكر الحديث.
وروى ابن ماجه -أيضًا- وأبو نعيم أحمد بن عبد الله- في كتابه المستخرج على صحيح مسلم- نحوه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: (من كتم علمًا مما ينتفع به في أمر الدين ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار).
وروى أبو يعلى، والطبراني -في الكبير- من حديث ابن عباس مرفوعًا:(من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار) الحديث.
وروى الطبراني -أيضًا- في الكبير نحوه من حديث عبد الله بن عمرو.
وروى في الأوسط من حديث ابن مسعود مرفوعًا: (أيما عبد آتاه الله علمًا فكتمه لقي الله يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار).
وروى ابن أبي الدنيا -بسنده- عن عبد الله بن عمر في قوله -تعالى-: {وإذا وقع القول عليهم} .
قال: (إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله -تعالى-: {واتقوا فتنًة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصًة} (أمر الله) المؤمنين أن لا يقروا منكرًا بين أظهرهم فيعمهم العذاب. وكذلك تأول فيها الزبير بن العوام، وغيره. والله أعلم.
وفي الصحيحين، ومسند احمد، وجامع الترمذي، وسنن ابن ماجه من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يومًا فزعًا يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها، فقالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث، هذه رواية الصحيحين.
وفيهما -أيضًا- أنه صلى الله عليه وسلم أشرف على أطم من آطام المدينة فقال: (أترون ما أرى؟ قالوا: لا. قال: فإني أرى الفتن تقع خلال بيوتكم كمواقع القطر).
وفي رواية أحمد، والترمذي، وابن ماجه قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من نوم محمرًا وجهه. وهو يقول: لا إله إلا الله. وذكر نحوه.
وفي جامع الترمذي بعد قوله: لا إله إلا الله يرددها ثلاث مرات، وعنده- عوض قوله•وحلق) - وعقد عشرًا.
وقال الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
ورواه مالك -في الموطأ- من حديث أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها قالت:
(يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، إذا كثر الخبث).
ورواه أحمد من حديثها -أيضًا- ولفظه. قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده فقلت: يا رسول الله أما فيهم أناس صالحون؟ قال: بلى. قلت: فكيف يصنع أولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان).
قوله- في الرواية- الأولى- (ويل) هي كلمة تقال لمن وقع في هلكة ولا يترحم عليه بخلاف- ويح.
وقوله: (للعرب) يعني المسلمين من أهل البادية.
و(الردم) السد، لأنه ردم يأجوج ومأجوج (وهو سد ذي القرنين).
و(يأجوج ومأجوج) بالهمز فيها وتركه- طائفتان من لود يافث بن نوح وهما صنفان من الترك أمتان أكثر الأمم.
وقوله: (أنهلك) بكسر اللام، وحكي فتحتها.
(وفينا الصالحون) أي يقع الهلاك بقوم فيهم من لا يستحق ذلك.
وقوله: (إذا كثر الخبث).
قال أبو عمر بن عبد البر: أولاد الزنا، وقال غير: الزنا.
وإسناد هذا الحديث من سباعيات البخاري. والله أعلم.
وقوله" (إني لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم) فيه إشارة إلى الحروب التي وقعت بينهم كمقتل عثمان ويوم الحرة وغيرها.
وروى أبو القاسم الطبراني، وأبو بكر البزار وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون؟ قال: نعم. قيل: بم يا
رسول؟ قال: بتهاونهم وسكوتهم عن المعاصي.
قال أبو عبد الله محمد بن عبد القوي- في نظمه:
تعم بما نجني العقوبة غيرنا
…
هنا وغدا يشقى بها كل معتد
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلًا للمنكر والساكت عن الإنكار بما ثبت عنه في صحيح البخاري، ومسند أحمد، وجامع الترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا) هذه رواية البخاري.
ورواية أحمد والترمذي نحوها وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه ابن أبي الدنيا -بسنده- عن عامر الشعبي قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يقول على المنبر: يا أيها الناس خذوا على أيدي سفهائكم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول):(إن قومًا ركبوا البحر في سفينة فاقتسموا فأصاب كلُّ رجل مكانًا فأخذ رجل منهم الفأس فنقر مكانه فقالوا: ما تصنع؟ قال: مكاني أصنع به ما شئت. فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا، وإن تركوه غرقوا وغرق. خذوا على أيدي سفهائكم قبل أن تهلكوا).
ورواه أبو الفرج بن الجوزي -بسنده- عن النعمان بن بشير مرفوعًا -أيضًا-:
"إن مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها، وأصاب بعضهم أعلاها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقًا فاستقينا منه ولم (نؤذ) من فوقنا، فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا".
هذا لفظ روايته، وعزاه إلى الصحيحين.
قوله: (القائم في حدود الله) أي المنكر لها، القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه ورسوله.
و(استهموا) أي: اقترعوا. والاستهام طلب السهم والنصيب.
قال العلماء: والهلاك المذكور في الحديث يحتمل (أن) يكون حسيًا ويحتمل أن يكون معنويًا، فأم المعنوي، فإن الواقع في الذنب قد أهلك نفسه، لما يؤول إليه من العذاب بسبب ما فعل والذي لم يغير عليه مثله، لأنه أمر بالتغيير فلما لم يغير وقع في ذنب آخر وهو تركه تغيير المأمور به فأهلك نفسه بما يؤول إليه من العذاب -أيضًا- فإن أخذ على يديه، وأقام عليه حد الله فقد نجا الفاعل للذنب بالحد الذي أقيم عليه.
لحديث عبادة بن الصامت الآتي في آخر الباب الثامن قوله صلى الله عليه وسلم: ( .. ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به فهو كفارةٌ له).
ونجا -أيضًا- الذي غير عليه، بإنكاره عليه، وإقامة حكم الله عز وجل كما أمر وثبت له على ذلك الثواب الجزيل، بدليل (ما تقدم من الكتاب والسنة) وما سيأتي من كلام الله -تعالى-، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الهلاك الحسي، فإن صاحب المعصية يخاف عليه الهلاك في هذه الدار، وكذلك الذي لم يغير عليه، بدليل من الكتاب والسنة. أما الكتاب فقصة أهل السبت. وقد سبق الكلام عليها عند تفسير قوله تعالى:{وإذ قالت أمةٌ منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم} .
وأما السنة:
فلما تقدم، ويأتي من الأحاديث المرفوعة والموقوفة.
قال بعض العلماء: وقد يراد المجموع وهو الظاهر من الحديث، لأنهم إذا تركوهم يفتحون فيدخل الماء في نصيبهم فسيهلكون فهم تسببوا في هلاك أنفسهم ومن تسبب في قتل نفسه فهو هالك في الدنيا والآخرة. وهلاكه في الدنيا بذهاب نفسه، وفي الآخرة بدخول النار والله أعلم.
وفي الصحيحين، ومسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنزل الله بقوم عذابًا، وأصاب العذاب من كان فيهم ثم يبعثون على نياتهم، وعند أحمد على أعمالهم وهي رواية البخاري).
هذا يبين حديث زينب السالف قبله.
قال العلماء: فيكون إهلاك جميع الناس عند ظهور المنكر والإعلان، لأن محاربة ذلك وتغييره واجب عليهم فمن رأى ولم ينكر كمن فعل.
(ودل قوله: ثم "يبعثون" وفي رواية (بعثوا على أعمالهم) أن ذلك الهلاك العام يكون طهرة للمؤمنين الطائعين ونقمة على الفاسفين).
وفي صحيح ابن حبان وغيره من حديث عائشة رضي الله عنهما قالت: (قلت يا رسول الله إن الله أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: يا عائشة إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمة فيهم الصالحون فيصابون معهم ثم يبعثون على نياتهم).
وفي جامع الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر هذه الأمة خسف ومسخ وقذف قالت: قلت: أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا أظهر الخبث).
وروى مسلم، وأحمد، والترمذي، وابن ماجه من حديث أم سلمة -رضي الله
عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم فقلت: يا رسول الله! فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: يخسف به معهم ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته- ورواه الإمام أحمد -أيضًا- من حديث حفصة بنت عمر مرفوعًا بلفظ: يأتي جيش من قبل المشرق يريدون رجلًا من أهل مكة حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم فرجع من كان أمامهم لينظر ما فعل القوم فيصيبهم (مثل) ما أصابهم. فقلت: يا رسول الله فكيف بمن كان مستكرهًا؟ قال: يصيبهم كلهم ذلك، ثم يبعث الله عز وجل كل امرئ على نيته).
وفي مسند أحمد -أيضًا- من حديث عدي بن عدي بن عميرة الكندي، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن الله عز وجل لا يعذب العامة بذنوب الخاصة حتى يروا المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة).
ورواه أحمد -أيضًا- من حديث عدي بن عدي قال: (حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره).
ورواه ابن أبي الدنيا بسنده- عن سيف بن أبي سليمان قال: سمعت عدي بن عدي يقول: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره.
ورواه الطبراني، من حديث العرس بن عميرة أخي عدي والله أعلم.
وفي سنن أبي داود، وابن ماجه، من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا).
ورواه الإمام أحمد -في المسند-.
ولفظه: "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعز منه وأمنع لم يغيروا عليه إلا أصابهم الله بعذاب".
ورواه ابن حبان- في صحيحه وأبو القاسم الأصبهاني.
ورواه ابن أبي الدنيا بهذا اللفظ، ورواه من طريق آخر.
بلفظ: "أيما قوم عمل فيهم بالمعاصي، هم أعز وأكثر لم يغيروا إلا عمهم الله بعقابه".
ورواه -أيضًا- بسنده- عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا:"ما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم".
ورواه البيهقي- في شعب الإيمان- بسنده، عن جرير بن عبد الله، عن أبي بكر رضي الله عنهما موقوفًا.
وفي المعجم الأوسط للطبراني، وشعب البيهقي من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها. فقال: يا رب إن فيهم عبدك فلانًا لم يعصك طرفة عين. فقال: اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط).
قوله: يتمعر أي يتغير [يحمَّر] فالمعنى: إن هذا كان رجلًا متعبدًا وعمل على نفسه ولم يلتفت إلى غيره، بل اشتغل فيما هو فيه، ولم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر، فخسف به أولًا، فمن لم يغضب لله، ولم يتمعر وجهه إذا انتهكت حرمات الله لحقه الإثم وحق عليه العذاب.
فعلى كل واحد من الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حسب حاله لا ينبغي أن يسعه السكوت عن ذلك البتة- كما سبق ويأتي
…
والله أعلم.
وروى الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم -بسنده- عن يحيى بن يعمر.
قال: خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(أيها الناس إنما هلك من هلك قلبكم بركوبهم المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا، ولا يقرب أجلًا انتهى).
وتأمل يا أخي عاقر الناقة فإنه ما كان إلا واحدًا كما أخبر -سبحانه- في قوله: {إذ انبعث أشقاها} . وقوله: {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} وتبعه ثمانية فصاروا تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون فأنزل الله العذاب على قوم صالح بأجمعهم (سواء من آمن منهم به) فأهلك من تحت أديم السماء من مشارق ومغاربها.
قال الله -تعالى-: {إنا أرسلنا عليهم} ولم يقل: عليه. فهلكت الأمة كلها معه وشمل الأصاغر والبهائم من العقوبة ما شمل الأكابر حين لم ينهوا عن عقر الناقة منهم ورضوا بفعله، وكذلك سائر الأمم السالفة الهلكى، يشمل صغارهم ونساءهم وحيوانهم العذاب فعياذًا بك اللهم من سخطك وغضبك وأليم عقابك.
وذكر الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا، عن وهب بن منبه قال: لما أصاب داود الخطيئة. قال: يا رب اغفر لي. قال قد غفرتها لك، وألزمت عارها بني إسرائيل. قال: يا رب كيف وأنت الحكم العدل لا تظلم أحدًا؟ أعمل أن الخطيئة، وتلزم عارها غيري؟ فأوحى الله إليه: لما عملت الخطيئة لم يعجلوا عليك بالإنكار.
وفي مسند الإمام أحمد رحمه الله، وجامع الترمذي، وشعب البيهقي، وغيرهم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي
نفسي بيده لتأمرن بالمعروف وتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم).
قال الترمذي حديث حسن.
قوله: (ليوشكن) بكسر الشين المعجمعة أي ليسرعن فلولا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض لما وجب العقاب على تركه، ولأن العقوبات إنما تجب بترك الواجبات. والله أعلم.
وفي سنن ابن ماجه وغيرها من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجب الله لكم).
ورواه أحمد والبيهقي بلفظ: (يا أيها الناس، إن الله يقول مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجيب لكم).
وروى ابن أبي الدنيا، والطبراني، وأبو القاسم الأصبهاني في حديث سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم وقبل أن تستغفروا فلا يغفر لكم. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقًا ولا يقرب أجلًا. وإن الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء).
أشار بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى قوله -تعالى-: {لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} .
وفي الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني -بسنده- عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها وترد عنهم العذاب والنقمة ما لم يستخفوا بحقها. قالوا: يا رسول الله ما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله -تعالى- فلا ينكر ولا يغير).
وفي مسند أبي بكر البزار -بسنده- عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم).
ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمر، وزاد- بعد قوله:(فلا يستجاب لهم): (لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن عليكم من لا يرحم صغيركم ولا يوقر كبيركم).
ومعنى الحديث: أن الله سبحانه: لا يجعل في قلوب الأشرار الرهبة منكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجعل في قلوبكم رهبتهم وإذا ارتفعت من قلوب الأشرار الهيبة من المؤمنين، استجرؤا عليهم وتسلطوا عليهم فإذا دعى خيارهم لم يستجب لهم لأنهم ضيعوا أمر الله ومن ضيع أمر الله لم يستجب له.
وروى الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يأخذ الله شريطته من أهل الأرض فيبقى عجاج لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا).
قال العلماء: الشريطة من الناس: الأشراف.
ويعني يقبض من يختاره من أهل الخير.
والعجاج: الرعاع من الناس وهم الأخلاط.
وروى أبو الشيخ بن حيان من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر).
ورواه علي بن معبد- في كتاب الطاعة والمعصية- من حديث الحسن البصري مرسلًا بزيادة تأتي في هذا الباب.
وروى من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا.
وبئس -في كلام العرب- مستوفية للذم، كما أن نعم مستوفية للمدح.
وفي مسند أحمد، وجامع الترمذي، وصحيح ابن حبان، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف وبينه عن المنكر) وقال: حديث غريب.
وفي لفظ: (ليس منا من لم يوقر الكبير ويرحم الصغير) فذكره.
قوله: (ليس منا) أي ليس من نصحائنا والمخلصين منا من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر بحسب وسعة وطاقته بشرائطه.
وروى الترمذي، وابن ماجه من حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان، واسمها رملة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بالمعروف أو نهيًا عن منكر، أو ذكر الله عز وجل).
وروى أبو القاسم الطبراني- في الأوسط، والكبير من حديث ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام عشرة أسهم، وقد خاب من لا سهم له، شهادة أن لا إله إلا الله وهي الملة، والثانية الصلاة وهي الفطرة، والثالثة الزكاة وهي الطهرة والرابعة الصوم وهو الجنة، والخامسة الحج وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهي العروة، والسابعة الأمر بالمعروف وهي الوفاء والثامنة النهي عن المنكر وهي الحجة، والتاسعة الجماعة وهي الألفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة).
وروى أبو يعلى الموصلي، وأبو القاسم الأصبهاني -بسنديهما- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام ثمانية أسهم، الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والحج سهم، والجهاد سهم، وصوم رمضان سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، وقد خاب من لا سهم له).
ورواه أبو بكر البزار من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعًا.
ولفظه: الإسلام ثمانية أسهم الإسلام سهم، والزكاة سهم، وحج البيت سهم، والصيام سهم، والصلاة سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم، وقد خاب من لا سهم له).
ورواه البيهقي مرفوعًا وموقوفًا.
قال الدارقطني: وهو الأصح.
فدل هذا الحديث: على أن من لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر خارج من صفة المؤمنين، كما أن من لم يقم الصلاة ويؤت الزكاة خارج عن صفة المؤمنين، فوجب على المؤمنين -حينئذٍ- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما وجب عليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. والله أعلم.
وفي صحيح أبي عبد الله الحاكم، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم، وتحج، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتسليمك على أهلك، فمن انتقص شيئًا منهم فهو سهم من الإسلام يدعه، ومن تركهن فقد ولى الإسلام ظهره).
وروى الطبراني -في الكبير بسنده- عن علقمة بن سعد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن جده قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فأثنى على طوائف من المسلمين خيرًا، ثم قال: (ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعطونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون
ويتفطنون) أو لأعاجلنهم العقوبة ثم نزل، فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال: الأشعريين هم قوم فقهاء ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب فبلغ ذلك الأشعريين، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ذكرت قومًا بخير، وذكرتنا بشر، فما بالنا؟ فقال: ليعلمن قوم جيرانهم وليفطننهم وليأمرنهم ولينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون، أو لأعاجلنهم بالعقوبة في الدنيا (فقالوا: يا رسول الله أنفطن غيرنا؟ فأعاد قوله عليهم وأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك -أيضًا- فقالوا أمهلنا سنة فأمهلهم سنة، (ليفقهونهم ويعلمونهم ويعظونهم) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود
…
} الآية).
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- بسنده، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كيف أنتم إذا طغى نساؤكم، وفسق شبابكم، وتركتم جهادكم؟ قالوا: وإن ذلك كائن يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده، وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: كيف إذا لم تأمروا بمعروف وتنهوا عن منكر؟ قالوا: أكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده، وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: أو كائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، يقول الله -تعالى-:{ربي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيرانًا} .
ورواه ابن أبي الدنيا -أيضًا- من حديث ابن مسعود بلفظ آخر: (رواه أبو يعلى الموصلي من حديث أبي هريرة مقتصرًا على الأسئلة الثلاثة وأجوبتها دون الآخرين).
قوله: (لأتيحن) بمثناة من فوق، ثم بمثناة من تحت، ثم حاء مهملة ونون مشددة أي لأقيضن- قاله العلماء.
وذكر رزين نحو هذا الحديث عن علي مرفوعًا -أيضًا- بلفظ: (كيف بكم إذا فسق فتيانكم، وطغى نساؤكم؟ قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم وأشد، كيف بكم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟ قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم وأشد. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: يا رسول الله وإن ذلك لكائن؟ قال: نعم وأشد. كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرًا والمنكر معروفًا).
وروى ابن أبي الدنيا -بسنده- عن ابي ميسرة عمرو بن شبرحبيل- رحمة الله عليه- قال: «يكون في آخر الزمان رجاجة من الناس لا يعرفون حقًا، ولا ينكرون منكرًا يتراكبون كما يتراكب الدواب والأنعام» .
وروى -ايضًا- بسنده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اله صلى الله عليه وسلم: (ما طفف قوم كيلًا ولا بخسوا ميزانًا إلا منعهم الله عز وجل القطر، ولا ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت، ولا ظهر في قوم عمل قوم لوط إلا أظهر الله فيهم الخسف، وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم).
وفي سنن ابن ماجه من حديث جابر -رضي الله (عنهما) -، قال: لما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر، قال:(ألا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟ ) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله بينما نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهبانيهم تحمل على رأسهم قلة فيها ماء فمرت بفتى منهم. فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها: فخرت على ركبتيها فانكسرت قلتها. فلما ارتفعت التفتت إليه. فقالت: سوف تعلم، يا غدر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا.
قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صدقت صدقت، كيف يقدس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟ ).
وروى البيهقي في الشعب من حديث ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرضه الحبشة لقيه رسول الله-صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني بأعجب شيء رأيته بأرض
الحبشة فقال: مرت امرأة على رأسها مكتل فيه طعام، فمر بها رجل على فرس فأصابها فرمى بها، فجعلت أنظر إليها وهي تعيده في مكتلها وهي تقول: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلومين من الظالم، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه فقال:(كيف تقدس أمة لا يؤخذ لضعيفها من شريفها حقه وهو غير متعتع).
ورواه البيهقي -أيضًا- من حديث جابر مختصرًا بلفظ: (لا قدست أمة لا يأخذ لضعيفها حقه من قويها غير متعتع).
وروى نحوه الطبراني- في المعجم الكبير- من حديث خولة بنت قيس امرأة حمزة بن عبد المطلب مرفوعًا: (ما قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها الحق من قويها غير متعتع مختصرًا).
ورواه الطبراني -أيضًا- في الكبير، والأوسط من طريق أخرى بلفظ:(قالت: كان على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسق من تمر لرجل من بني ساعدة فأتاه يقتضيه فقضاه تمرًا دون تتمره فأبى أن يقبله فقيل: أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم ومن أحق بالعدل من رسول الله فاكتحلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدموعه. ثم قال: صدق من أحق بالعدل مني لا قدس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه مختصرًا).
ورواه أحمد عن عائشة، وكذلك البزار.
ورواه أبو يعلى الموصلي من حديث أبي سعيد أيضًا ورواته رواة الصحيح.
ولفظه: «لا قدست أمة لا يعطى الضعيف فيها حقه غير متعتع» .
ورواه ابن ماجه من حديث أبي سعيد -أيضًا- وذكر فيها قصة التمر المتقدمة آنفًا من حديث خولة غير الأولى وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع).
ورواه الطبراني من حديث أبي مسعود الأنصاري بإسناد جيد.
ورواه -أيضًا- من حديث معاوية ولفظه: «لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ويأخذ الضعيف فيها حقه من القوي غير متعتع» .
المكتل شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعًا تعتعه بتاءين مثناتين من فوق، وعينين مهملتين- أي أقلقه وأتعبه بكثرة ترداده إليه ومطله إياه .. والله أعلم.
وروى الإمام أحمد، والبيهقي، وابن أبي الدنيا، وغيرهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم أمتي لا تقول للظالم أنت ظالم فقد تودع منهم).
ورواه الحاكم من حديث ابن عمر. وقال: صحيح الإسناد.
قال البيهقي رحمه الله والمعنى في هذا، أنهم إذا خافوا على أنفسهم من هذا القول فتركوه كانوا- مما هو أشد منه وأعظم من القول والعمل- أخوف، وكانوا إلى أن يدعو جهاد المسلمين (بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، خوفًا على أنفسهم، وإذا صاروا كذلك فقد تودع منهم، واستوى وجودهم وعدمهم، وتودع الخير منهم.
وقال غيره: معنى (تودع منهم) أي استريح منهم، وخذلوا فخلى بينهم وبين المعاصي أو تحفظ منهم، وتوقوا كما يتوقى من شرار الناس. والله أعلم.
وروى ابن أبي الدنيا -بسنده- عن الفضيل بن عياض -قدس الله روحه- قال: ذكر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا عظمت أمتي الدنيا نزعت منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي).
قال: وذكر سفيان نحوه. وقال: ذلك في كتابه عز وجل: {سأصرف عن ءاياتى الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} .
قال: (سأنزع عن قلوبهم فهم القرآن).