الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المرجوم. وكان أرحم الناس أجمعين على الإطلاق وأرأفهم.
فالعبد المطيع لله إذا سمع بأسير من أسراء المسلمين في أرض العدو رحمه وبذلك نفسه وماله في تخليصه، فمن باب الأولى أنه إذا رأى أخاه مأسورًا في نفسه وشيطانه وهما أعداء عدوه أن يجتهد في خلاصه. واستنقاذه منها، فإن أعرض عنه وتركه وأسره كان ذلك من جهله بالله- تعالى- وبأموره.
ألا ترى إلى قوله- تعالى- في مناجاته: يا داود إن أتيتني بعبد أبق كان أحب إلي من عبادة الثقلين. يا وداد إن استنقذت هالكًا من هلكته سميتك عبدي جهيدًا.
وقد سبق- في الباب الأول- قوله صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النَّعم). فإذا أنقذ العبد أسيرًا من يد عدوه الأصغر كان ثوابه من الله ما ذكر في تنزيله: { .. ومن أحياها فكأنما أحيا النَّاس جميعًا
…
} فما ظنك بمن أنقذ أسير المعاصي من يد عدوه الأكبر فذلك لا يحصى ثوابه. والله أعلم.
فصل (20): ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر العورات والعيوب:
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر ستر عورات المسلمين لأن ستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها سمة أهل الدين. ويكفي تنبيهًا على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل قول الله تعالى: {قول مَّعروفٌ ومغفرة .. } .
قال بعض المفسرين: أي يستر عليه خلته، ولا يهتك ستره ثم إن الله تعالى (اختاروه) في الدعاء ونزل به جبريل على سيد البشر صلى الله عليه وسلم قوله:"يا من أظهر (الجميل) وستر البيح، يا من لا يؤاخذنا بجزيرة ولا يهتك الستر".
وروى الخرائطي- في مكارم الأخلاق- بسنده، عن الضحاك في قوله تعالى:{وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة .. } .
قال: أما الظاهرة فالإسلام والقرآن، وأما الباطنة فالستر من العورات والعيوب. والمرضيّ عند الله- تعالى- من تخلق بأخلاقه- تعالى- وأنه ستار العيوب، وغفار الذنوب
فكيف لا تستر أنت على من هو مثلك أو فوقك أو دونك! !
وروى أبو الفرج المعافي ابن زكريا- بإسناده- عن الضحاك، عن ابن عباس وقد سئل عن هذه الآية. فقال: هذه مما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله ما هذه النعم؟ قال: (أما ما ظهر فالإسلام وما سواه من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما ما بطن فما ستر عليك من مساوئ عملك). يا ابن عباس، إن الله تعالى- يقول:"ثلاث جعلتهن للمؤمن: صلاة المؤمن عليه من بعد موته. وجعلت له ثلث ماله يكفر عنه من خطاياه، وسترت مساوئ عمله أن أفضحه بشيء ولو أبديتها لنبذه أهله فمن سواهم". إذا كان ستر الخالق البارئ المصور فكيف لا تستر أنت على من هو مثلك أو فوقك أو دونك ومن هو بكل حال لا عبدك ولا مخلوقك! !
ومن أعظم الأدلة على ذلك طلب الشرع لستر الفواحش، أنه أناط الزنا بشهادة أربعة من العدول، يشهدون ويفصحون من غير كتابة، حتى أن القاص لو علم بحقيقته لم يكن له أن يكشف عنه. فانظر إلى هذه المحكمة العظيمة في حسم باب الفاحشة عن عباده، ثم انظر إلى ستره- سبحانه- كيف يسبله على العصاة من خلقه.
وفي حديث النجوى الثابت في الصحيحين، ومسند أحمد، وسنن ابن ماجه من حديث عمر مرفوعًا: "إن الله يدني المؤمن فيضع على كتفه ويستره. فيقول: أتعرف ذنب كذا وكذا؟ أتعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم يا رب حتى إذا قرَّره بذنوبه ورأى نفسه أنه هلك قال: إني ما سترتها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم
…
الحديث. فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد:"هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" الحديث.
وفي الصحيحين، وجامع الترمذي من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا، ستره الله يوم القيامة).
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عمر.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي، وابن ماجه، وصحيحي الحاكم وابن حبان من حديث أبي هريرة مرفوعًا:"من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عن كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة. ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" مختصر.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة".
وفي رواية: لا يستر الله على عبد في الدنيا، إلا ستره يوم القيامة.
وروى الإمام أحمد، والنسائي نحوه من حديث عروة، عن عائشة مرفوعًا- في حديث طويل- "لا يستر الله على عبد في الدنيا إلا ستره الله في الآخرة".
ومعنى ستره الله في الآخرة أن يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف- كما تقدم قريبا- من حديث عمر.
وفي مسند أحمد من حديث مسلمة بن مخلد الأنصاري مرفوعًا: من ستر مسلمًا في الدنيا ستره الله- عز وجل في الدنيا الآخرة ومن نجَّى مكروبًا فكَّ الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حياته.
ورواه الطبراني ولفظه: من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة.
وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث عن مسيب عن عمه. قال: بلغ رجلًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة). فرحل إليه وهو بمصر فسأله عن الحديث. قال: نعم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ستر أخاه المسلم في الدنيا ستره الله يوم القيامة. فقال: وأنا قد سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنن ابن ماجه وغيرها من حديث ابن عباس- رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه الله بها في بيته).
أنشدني الشيخ علاء الدين بن الشريف المارديني لنفسه:
استر عوارًا أخي الولات معتذرًا
…
عنه وإن كنت بالمعروف تأمره
فالرب من فضله العالي ورأفته
…
على العباد يرى العاصي ويستره
وأنشدني أيضًا لنفسه:
ربنا الستار من ألطافه
…
يستر العبد وذا الفضل الجزيل
فإذا شاهدت يومًا ذللا
…
فاستر الذلة فالستر جميل
وفي سنن أبي داود، وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من أقال مسلمًا عثرته أقاله الله يوم القيامة).
ورواه الطبراني وابن حبان.
وروى الخرائطي- في مكارم الأخلاق- بسنده- عن أبي الدرداء قال: أتي بجارية قد سرقت جملًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها النبي أسرقت. قولي لا. وفي سنن أبي داود عن عائشة أن النبي كان يقول: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود.
وسيأتي- في باب الحث على إقامة الحدود- إن شاء الله تعالى- وفي مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود بسنديهما- عن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه نعيم. قال: كان ماعز بن مالك يتيمًا في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي فقال له أبي: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال: يا رسول الله إني قد زنيت فأقم علي كتاب الله فأعرض عنه فعاد فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم عليَّ كتاب الله فأعرض عنه، فأتاه الثالثة فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب فأعرض النبي عنه فقالها أربع مرات حتى قالها أربع مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك قلتها أربع مرات فبمن؟ قال: بفلانة. فقال: هل ضاجعتها؟
قال: نعم. قال هل باشرتها؟ قال: نعم. قال: هل جامعتها؟ قال: نعم. قال: فأمر به أن يرجم فأخرج إلى الحرة فلما رجم فوجد مس الحجارة جزع فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فنزع له بوطيف بعير فرماه به فقتله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: هلا تركتموه لعله أن يتوب فيتوب الله عليه.
زاد أحمد. قال هشام: فحدثني يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين رآه: والله يا هزال لو كنت سترته بثوبك كان خيرًا مما صنعت به.
وحكاه صاحب الأطراف للنسائي من عدة طرق.
اسم المرأة التي زنا بها ماعز فاطمة. وقيل: منيرة وهي أمة هزال القائل لماعز: إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى أبو القاسم الطبراني في المعجم الأوسط. والصغير والخرائطي- في
مكارم الأخلاق- من حديث أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يرى امرؤ من أخيه عورة فيسترها عليه إلا أدخله الله الجنة).
وفي مسند أحمد والنسائي من حديث أبي الهيثم، عن دخين كاتن عقبة بن عامر. قال: قلت لعقبة: إن لنا جيرانًا يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط، فيأخذونهم فقال: لا تفعل ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل فلم ينتهوا. فاء دخين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا وأنا داع لهم الشرط. فقال عقبة: ويحك لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من ستر عورة مؤمن فكأنما استحتى موؤودة من قبرها). ورواه البيهقي في الشعب الخرائطي في مكارم الأخلاق وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك. وقال صحيح الإسناد.
ورواه أبو داود بسنده عن كعب بن علمقمة: أنه سمع أبا الهيثم يذكر أنه سمع دخينًا كاتب علقمة بن تامر. قال: كان لنا جيران يشربون الخمر. فقلت لعقبة بن عامر إن جيراننا يشربون الخمس، فنهيتم فلم ينتهوا فأنا داع لهم الشرط. فقال: دعهم، ثم رجع إلى عقبة مرة أخرى. فقلت: إن جيراننا قد أبوا أن ينتهوا عن شرب الخمر، وأنا داع لهم الشرط، فقال: ويحك دعهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(من رأى عورة فسترها كان كمن أحيات موؤودة).
الشرط- بضم المعجمة، وفتح الراء ثم طاء مهملة- هم أعوان الولاة والظلمة والوحد منهم شرطي- بضم الشين وسكون الراء والله أعلم.
وروى الطبراني بسنده- عن مكحول أن عقبة بن عامر أتى مسلمة بن خالد- رضي الله عنهما وكان بينه وبين البواب شيء فسمع صوته فأذن له: فقال: إني لم آتك زائرًا ولكن جئتك لحاجة، أتذكر يوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه
يوم القيامة) قال: نعم. قال: لهذا جئت. قال الحافظ عبد العظيم المنذري: رجاله رجال الصحيح.
وبسند الطبراني- أيضاً- في الأوسط عن رجاء بن حيوة الكندي قال: سمعت مسلمة بن مخلد- رضي الله عنه يقول: بينما أنا على مصر أتاني البواب. فقال: إن أعرابيًا على الباب يستأذن. فقلت: من أنت؟ فقال: جابر بن عبد الله. قال: فأشرفت عليه فقلت أنزل غليك أو تصعد؟ قال: لا تنزل ولا أصعد حديث بلغني أنك ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ستر المؤمن جئت أسمعه: قلت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مؤمن عورة فكأنما أحيا موؤودة) فضرب بعيره راجعًا.
رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق.
وقال عيسى عليه السلام كيف تصنعون إذا رأيتم نائمًا فكشفت الريح عن ثوبه؟ قالوا: نستره ونغطيه. فقال: بل تكشفون عورته. فقالوا: سبحان الله من يفعل هذا؟ قال: أحدكم يسمع في أخيه الكلمة فيزيد عليه، ويشيعها بأعظم منها.
وروى الخرائطي- بسنده عن زبيد بن الصامت قال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: لو أخذت سارقًا لأحببت أن يستره الله.
وبسنده عن أبي هريرة. أنه قال: من أطفأ على مؤمن سيئة فكأنما أحيا موؤوة. قوله: (أطفأ) أي ستر وغطى.
وسئل الحسن البصري، عن رجل زنى بامرأة فظهر بها حبل. قال: يتزوجها ويستر عليها.
وقال له رجل: يا أبا سعيد رجل علم من رجل شيئاً أفيفشيه عليه؟ قال: يا سبحان الله لا.
وروى أبو نعيم- في الحلبة- بسنده عن شبيل بن عوف- رحمة الله عليه- أنه قال: "من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كمن أبداها".
وقال عطاء: قال عمر بن الخطاب: أُستر من الحدود ما وراءك أي إدرءوها ما قدرتم.
ذكر الخرائطي.
وذكر -أيضًا- عن أبي الدرداء مرفوعًا «من أشاد على مسلم عورة يشينه بها أشانه الله بها يوم القيادة.
أشاد: أي رفع. أي ذكره بها وفوه به وشهره بالقبيح.
وقال (صاحب) سيرة أبي الفضل الوزير ابن هبيرة سمعته يقول لبعض من يأمر بالمعروف: اجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام وأولى الأمور ستر العيوب.
وقال ابن حمدان -في الدعاية الكبرى-: (ومما للمسلم على المسلم أن يستر عورته، ويغفر ذلته، ويرحم غربته ويقيل عثرته ويقبل معذرته ويرد غربته ويديم نصيحته، ويحفظ خلته ويرعى ذمته ويجيب دعوته ويقبل هديته ويكافئ صلته ويشكر نعمته ويحسن نصرته ويقضي حاجته ويشمت عطسته ويرد ضالته ويواليه ولا يعاديه وينصره على ظالمه ويكفه عن ظلم غيره ولا يسلمه ولا يخذله ويحب له ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لنفسه.
قال أبو ذكريا النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم عند قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)، وأما الستر المندوب إليه هنا فالمراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممن ليس معروفاً بالأذى والفساد. وأما المعروف بذلك فيستحب أن لا يستر عليه، بل ترفع قضيته إلى ولي الأمر، إن لم يخف من ذلك مفسدة لأن الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد وانتهاك المحرمات وجسارة غيره على مثل فعله. وهذا كله في ستر معصية وقعت وانقضت.
أما مسألة معصية يراه عليها وهو متلبس فتجب المبادرة بإنكارها عليه ومنعه منها على من قدر على ذلك ولا يحل تأخيرها. فإن عجز لزمه رفعها إلى ولي الأمر، إذا لم تترتب على ذلك مفسدة -كما تقدم. ثم قال: وأما الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم فيجب جرحهم عند الحاجة ولا يحل الستر عليهم إذا رأى منهم مايقدح في أهليتهم. وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة. وهذا مجمع عليه.