الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وسئل بعضهم أي الأمور أشد تأييدًا للفتى وأشدها إضرارًا به. قال: أشدها تأييدًا له ثلاثة أشياء: مشاورة الحكماء وتجربة الأمور وحسن التثبت وأشدها إضرارًا به ثلاثة أشياء: الاستبداد، والتهاون، والعجلة. وكانت العرب تسمي العجلة: أم الندامات.
وذكر عند المأمون بعض عظماء دولته، فقال: نعم من ذكرتم ولولا عجلة فيه.
وقال بعض الحكماء: العجلة في الأمر خرق، وأخرق من ذلك التفريط في الأمر بعد القدرة عليه.
قال حكيم للإسكندر: احفظ عني ثلاثة خلال. صل عجلتك بتأنيك، وسطوتك بترفقك، وضرك بنفعك. تثبت في سائر أمورك تحصل على الفوائد، وجانب العجلة فإنها بئست الخصلة المقاصد.
وأنشدوا:
وإذا أردت صواب أمر مشكل
…
فتأن أمرك، فالتأني أصوب
ما أقوم فنانك لو استعملت في أمرك أنانك! ! وما أصلح شأنك لو رأيت في مرآة الاعتبار ما شانك! !
فينبغي للآمر الناهي أن يتأمر العواقب تأمل من لله يراقب، فمن سمت نفسه إلى تجشم رتب المعالي، وعلت همته إلى استخدام بيض الأيام وسود الليالي، تسربل بملابس التؤدة، لتكشف له موارد الخطل والخلل، ومقاصد أهل الزيغ والزلل ويعلم المفسد من المصلح في القول والعمل فتهون عليه عظائم الأمور، وتعظم مهابته في الصدور وتتجافى الناس أن يعاملوه بشيء من المحظور والمحذور. ومتى آثر السرعة على راحة التؤدة. فقد تعجل أغراق النار الموقدة وكان جديرًا بإنتقاص مبرم ما ذكر إليه، وإعراض الخلق بعد إقبالهم عليه، وآل أمره إلى ندامة يعض منها على يديه.
فصل (18): ويستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر قصد نصح جميع الأمة
ومما يستحب للآمر بالمعروف الناهي عن المنكر، قصده نصح جميع الخلق، بأن يريد لغيره من الخير ما يريد لنفسه.
قال الله تعالى حكاية عن عبده ورسوله نوح: {وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} ، وعن نبيه هود- عليهما السلام:{ .. وأنا لكم ناصحٌ أمين} أي عرفت فيما بينكم بالنصح، فما حقي أن أتهم وأنا لكم ناصح فيما أدعوكم.
قال العلماء: النصح إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة بخلاف الغش. يقال: نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة ونصحًا وهو باللام أفصح، لقوله:{ .. وأنصح لكم .. } والاسم النصيحة والنصيح الناصح. وقوم نصحاء، ورجل ناصح أي خالص، وكل شيء خلص فقد نصح وانتصح فلان أي أقبل على النصيحة.
قال أبو سليمان الخطابي: النصيحة كلمة جامعة، ومعناها: حيازة الحظ للمنصوح له، وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع. شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل.
وقيل: (مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح- فيما يتحراه من صلاح المنصوح له- بما يسده من خلل الثوب، والله أعلم).
ولقد أكرم الله هذه الأمة بالصديقين خاصة، كما خص بني إسرائيل بالأنبياء عامة، فجعل المرسلين أهل الشرع، وجعل الأنبياء أهل الإنذار، وجعل الصديقين أهل النصيحة والبيان.
وفي الصحيحين، ومسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي من حديث زياد بن علاقة. (قال: سمعت جرير بن عبد الله- رضي الله عنه يقول يوم مات المغيرة بن شعبة. قام فحمد الله وأثنى عليه. وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد فإني أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على الإسلام فشرط
علي والنصح لكل مسلم فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لكم لناصح، ثم استغفر ونزل. هذه رواية البخاري).
وأخرج مسلم المسند منه.
وفي رواية لهما. (قال جرير: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم).
وفي أخرى لهما. قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم.
وروى أبو داود، والترمذي، الرواية الثانية وزاد فيها أبو داود: وكان إذا باع الشيء أو اشتراه قال: أما إن الذي أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك فاختر.
وفي رواية قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن أنصح لكل مسلم.
وفي أخرى قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم.
وفي أخرى قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أبايعك على السمع والطاعة فيما أحببت وكرهت. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوتستطيع ذلك يا جرير أو تطيق ذلك؟ قال: فيما استطعت فبايعني والنصح لكل مسلم).
وفي أخرى قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع، فقلت: يا رسول الله أبسط يدك، حتى أبايعك واشترط علي، فأنت أعلم. قال:(أبايعك أن تعبد الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين).
قال العلماء- رضي الله عنهم: فالنصح معتبر بعد الإسلام لهذا الحديث. ومما يتعلق
بهذا الحديث- أيضًا- منقبة لجرير- رضي الله عنه فيما روى أبو القاسم الطبراني- بإسناده أن جريرًا أمره مولاه أن يشتري له فرسًا، فاشترى له فرسًا بثلاثمائة درهم وجاء به وبصاحبه، لينقده الثمن. فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من الثلاثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة؟ قال: ذلك إليك، يا أبا عبد الله. قال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم، ثم لم يزل يزد مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول: فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه فقيل له في ذلك! ! فقال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم).
وفي صحيح مسلم، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، والنسائي من حديث أبي رقية تميم بن أوس الداري- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الدين النصيحة) قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). هذه رواية مسلم وأحمد.
وفي رواية أبي داود: إن الدين النصيحة: قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: (لله- عز وجل ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم). وعند النسائي بلفظ (إنما الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم).
وروى أحمد، والترمذي، والنسائي نحوه من حدث أبي هريرة- رضي الله عنه بالتكرار- أيضًا- وحسنه.
وروى أيضًا- نحوه من حديث ابن عباس.
ورواه الطبراني- في الأوسط- من حديث ثوبان إلا أنه قال: رأس الدين النصيحة.
وليس لتميم في صحيح مسلم سوى هذا الحديث، وليس له في صحيح البخاري شيء سوى تعليق الحديث والله أعلم.
قال العلماء: (معنى الحديث عماد الدين وقوامه النصيحة). كقوله: (الحج عرفة) أي عماده ومعظمه.
والنصيحة فرض على الكفاية فيجزئ فيه من قام به وسقط عن الباقين لأنها محض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
قال أبو عبد الله بن مفلح: وظاهر كلام الإمام أحمد، وأصحابه وجوب النصح للمسلم وإن لم يسأله ذلك، لظاهر الأدلة).
وقال صاحب المستوعب: ومن الواجب موالاة المسلمين والنصيحة لهم وأنشدوا:
من يبلغ عمرو بن هند إيه
…
ومن النصيحة كثرة الإنذار
والنصيحة لازمة على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يقبل منه نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي أذى فهو في سعة.
أما النصيحة لله- تعالى- فمعناها: (إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ونفي الشرك عنه، ووصفه بصفات الكمال، وتنزيهه عن جميع أنواع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والدعاء إلى جميع أوصاف الخير، والحث عليها).
قال الخطابي: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه (نفسه) معاذ الله- تعالى- غني عن نصح الناس).
وستأتي رواية أحمد من حديث أبي أمامة: "أحب ما تعبدني به عبدي إلى النصح لي".
وقال جعفر بن محمد: ما ناصح الله عبد مسلم في نفسه، فأخذ الحق لها وأعطى الحق منها، إلا أعطي خصلتين: رزق من الله بقنع منه، ورضا من الله عنه.
أما النصيحة لكتابه، فالإيمان بأنه كلامه- تعالى- وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام
الخلق ثم تعظيمه وتلاوته، مع إقامة حروفه مع الخشوع عندها والذب عنه، لتأويل المحرفين، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه، وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه والتسليم لمتشابهه.
وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه ونصرته حيًا وميتًا، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه، وتعظيمه وإحياء سنته وطريقته، ونشرها، ونفي التهمة عنها، والنفقة في معانيها، والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها، وإعظامها وإجلالها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه- رضي الله عنهم.
(يا آل بيت رسول الله حبكم
…
فرض من الله في القرآن أنزله
يكفيكم من عظيم القدر أنكم
…
من لا يصلي عليكم لا خلاق له)
وأما النصيحة لأئمة المسلمين- وهم الخلفاء وغيرهم فمن يقوم بأمر المسلمين من أصحاب- الولايات- فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم والدعاء لهم بالصلاح.
قال صاحب المستوعب: وفرض على المؤمن النصيحة لإمامه، وطاعته في غير معصية، والذب عنه.
قال أبو زكريا يحيى النووي: اعلم أن هذا الباب تتأكد العناية به- فيجب على الإنسان النصيحة والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكل كبير وصغير، إذا لم يغلب على ظنه ترتب مفسدة على وعظ. انتهى.
وقد روى أبو بكر البيهقي- في شعب الإيمان من حديث أنس مرفوعًا: "السلطان ظل الله في الأرض فمن غشه ضل، ومن نصحه اهتدى".
ثم رواه من طريق آخر، عن قتادة:
وقال بعض السلف: أحوج الناس إلى النصيحة الملوك، لما ابتلاهم الله به من سياسة الخلق وأوجب عليهم من القيام بالحق.
وأما ما يفعله كثير من الناس من إهمال ذلك في حق كبار المراتب، ويتوهم أن ذلك حياء فخطأ صريح، وجهل قبيح، فإن ذلك ليس بحياء، وإنما هو جور ومهانة وضعف وعجز، فإن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، وهذا يأتي بشر فليس بحياء. وإنما الحياء- عند المحققين والعلماء الربانيين- خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق.
كما قال أبو القاسم الجنيد بن محمد- قدس الله روحه-: الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فتتولد بينهما حالة تسمى حياء. والله أعلم.
(وأما نصيحة عامة المسلمين- وهم من عدا ولاة الأمور- فعلى المسلم أن يكون ناصحًا لإخوانه المسلمين، يقصد ما هو أصلح لهم من إرشاد لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم، وإعانتهم على ذلك بالقول والفعل، وأمرهما بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وستر عوراتهم، ورفع المضار عنهم، وجلب المنافع إليهم، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غيبتهم والذب عن أعراضهم وأموالهم وغير ذلك بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع هذه الصفات وتنشيط هممهم إلى الطاعات. ومجموع ذلك كله ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه).
الجزء الرابع
وقال الإمام أبو بكر البيهقي- في الشعب: وأما نصيحة جماعة المسلمين، فإن نصيحتهم على أخلاقهم ما لم يكن لله معصية وانظر إلى تدبير الله فيهم بقلبك، فإن الله قسم بينهم أخلاقهم كما قسم بينهم أرزاقهم ولو شاء لجعلهم على خلق واحد فلا تغفل عن تدبير الله فيهم فإذا رأيت معصية فاحمد الله، إذ صرفك عنها في وقتك، وتلطف في الأمر والنهي في رفق وصبر وسكينة فإن قبل منك فاحمد الله، وإن رد عليك فاستغفر الله، لتقصير منك كان في أمرك ونهيك واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور.
وفي الصحيحين، ومسند أحمد، وسنن أبي داود، والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه مرفوعًا: حق المسلم على المسلم: ردّ السلام، وعيادة المريض واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس. هذا لفظ الصحيحين وأحمد وأبي داود، ولمسلم وأحمد قال: حق المسلم على المسلم ست قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: (إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه). وروى "الترمذي" هذه الرواية التي "المسلم" وجعل بدل "السلام" وتنصح له غاب أو شهد.
ولفظ النسائي قال: "للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض ويشهده إذا مات ويجيبه إذا دعاه ويسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد".
ورواه ابن ماجه بلفظ آخر: ويحب له ما يحب لنفسه.
وفي مسند الإمام أحمد وغيره من حديث علي ابن أبي طالب مرفوعًا للمسلم على المسلم من المعروف ست: يسلم عليه إذا لقيه ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض ويجيبه إذا دعاه ويشهده إذا توفى، ويحب له ما يحب لنفسه وينصح له بالمغيبة.
وروى أبو داود- في باب النصيحة- بسنده عن كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخ المؤمن يكف عليه ضيعته، ويحفظه من ورائه).
قال العلماء: وأما الكافر فليس على المسلم أن ينصحه. لما تقدم من حديث زياد بن علاقة وتميم الداري قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يعني الإمام أحمد- رحمه الله يقول: ليس على المسلم نصح الذمي، بل عليه نصح المسلم والله أعلم.
وروى الطبراني، والحاكم من حديث حذيفة بن اليمان مرفوعًا: من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويمسي ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم.
وروى نحوه الطبراني- أيضًا- في المعجم الأوسط- من حديث أبي ذر.
وروى أبو القاسم إسماعيل الأصبهاني- في الترغيب والترهيب بسنده عن أبي أمامة
الباهلي مرفوعًا: إن الله- تبارك وتعالى يقول: أحب ما تعبدني به النصيحة. ورواه الإمام أحمد في المسند- بلفظ: أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي.
وفي رواية: أحب ما تعبدني به عبدي النصح.
وروى أبو بكر البيهقي- في الشعب- من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: مثل تراخم المؤمنين بعضهم على بعض ونصح بعضهم بعضًا، وشفقة بعضهم على بعض، كرجل اشتكى بعض جسده فتداعى جسده كله بالسهر إذا ألم ببعض جسده.
وسيأتي- من رواية الصحيحين- بغير هذا اللفظ.
وروى أيضًا- بسنده، عن قتادة، عن أنس بن مالك مرفوعًا:"المؤمنون بعضهم لبعض نصحه وادُّون وإن افترقت منازلهم وأبدانهم والفجرة. بعضهم لبعض غششةٌ متخاذلون وإن اجتمعت منازلهم وأبدانهم". ورواه أبو الشيخ بن حيان في كتاب التوبيخ وكذلك أبو القاسم الأصبهاني- في الترغيب والترهيب. وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد- بسنده، عن الحسن البصري مرسلًا: إن أحب عباد الله إلى الله أنصحهم لعباده. وبسنده، عن غالب القطان قال: رأيت الحسن البصري- رحمة الله عليه- في المنام في سكة الموالي وبيده ريحان فقلت: أخبرني بأمر يسير عظيم الأجر. فقال: نعم نصيحة بقلبك وذكر بلسانك تقلب بهما.
وفي كتاب الزهد والرقائق، لعبد الله بن المبارك، عن الأوزاعي عن حسان بن عطية- رحمة الله عليه- قال: قال الله- تعالى: لا ينجو مني عبدي إلا بأداء ما افترضت عليه، وما يبرح عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، وما تقرب إلي بشيء أفضل من النصيحة فإذا فعل ذلك كنت قلبه الذي يعقل به، ولسانه الذي ينطق به وبصره الذي يبصر به أجيبه إذا دعاني وأعطيه إذا سألني وأغفر له إذا استغفرني.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث معقل بن يسار مرفوعًا: ما من أمير يلي أمور
المسلمين ثم لا يجهد لهم ولا ينصح إلّا لم يدخل معهم الجنة.
وروى البيهقي- في الشعب- بسنده، عن الحسن البصري أنه سمع عبد الرحمن بن سمرة يقول: ما استرعى الله عبدًا رعية فلم يحط من ورائهم بالنصيحة، إلا حرم الله عليه الجنة. وفي مسند الإمام أحمد بسنده. عن حكيم بن زيد مرفوعًا: دعوا الناس يصيب بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه. ورواه: فليصب بعضهم من بعض. ورواه الخرائطي- في مكارم الأخلاق- بلفظ: دعوا عباد الله فليصب بعضهم من بعض، وإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه.
وفي رواية: إذا استشار أحدكم أخاه فلينصحه. وقال سفيان بن عيينة: عليك بالنصح لله في خلقه، فلن تلقاه بعمل أفضل منه.
قال بعض الحكماء: حض أخاك بالنصيحة، وإن كانت قبيحة. وقال غيره: أوقف أخاك على النصيحة حسنة كانت أو سيئة.
وروى أبو بكر بن أبي الدنيا- بسنده، عن عبد الله بن المبارك عن معمر: قال: كان يقال: أنصح الناس لك من خاف الناس فيك. وقال بعض الحكماء: خير الإخوان أشدهم مبالغة في النصيحة.
وأنشدوا:
إن النصيحة لو تباع وتشتري
…
كانت تباع بأنفس الأثمان
لكنها مبذولة موهوبة
…
ولقلما قبلت من الإخوان
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبون الناصحين. قال أبو حامد الغزالي: فإن قلت: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله عبد
الرحمن بن نعيم التستري. أما بعد، فكن عبداً لله ناصحاً له في عباده، ولا تأخذك في الله لومة لائم، فإن الله -تعالى- أولى بك من الناس، وحقه عليك أعظم ولا تولين شيئا من أمور المسلمين إلا الأمر بالمعروف وبالنصيحة لهم والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيما استرعى وإياك أن يميلك ميلاً إلى غير الحق، فإن الله لا تخفى عليه خافية.
قال أبو حامد الغزالي: فإن قلت: فمتى يصح للإنسان يشتغل بنصح الناس؟ فأقول: إذا لم يكن له قصد إلا هداية الخلق لله -تعالى- وكان يود لو وجد من يعينه، أو لو اهتدوا بأنفسهم وانقطع بالكلية طمعه عن شأنهم، وعن أموالهم فاستوى عنده مدحهم وذمهم، ونظر إليهم كما ينظر إلى السادات وإلى البهائم، أما السادات فمن حيث لا يتكبر عليهم، ويرى كلهم خيراً منه، بجهله بالخاتمة، وأما البهائم فمن حيث المنزلة في قلوبهم.
وينبغي أن تكون النصيحة سراً بين الناصح والمنصوح له، كما سبق الكلام عليه - في الدرجة الثالثة - من الباب الثاني - من قول الإمام الشافعي وغيره: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه.
وروى أبو نعيم بسنده - عن سفيان الثوري قال: قلت لمسعر بن كدام: تحب أن تهدى إليك عيوبك؟ فقال: أما من ناصح فنعم. وأما من موبخ فلا.
كما قال بعض الحكماء: نصح الصديق تأديب، ونصح العدو تعنيف. والفرق بين التأديب والنصح، وبين سوء العشرة: أن التأديب لرجل ناصح لله- تعالى- محب للقيام بحقوقه- عز وجل حريص على ذلك فهو يعاشر الناس على التأديب. وإذا رأى منهم تقصيرًا في حق أو تهاونًا بأمر الله عاتبهم وأدبهم، فينفع الله به الخلق، لصدقه في فعله، وتلين القلوب له، ويذهل النفوس منه.
وسوء العشرة، لرجل ضايق الناس في أمورهم ومعاملتهم ومعاشرتهم ليس به إقامة حق لله، ولكن سوء خلقه، وضيق صدره حمله على ذلك فهو معاشر الناس بذلك الضيق والانحراف.
والثاني فالصاحب من ينصحك إذا علا أمرك، ولا يفضحك إذا خمد جمرك. أولئك خيار الخلصاء وكرام الجلساء، خيار الصباح، وسمار المساء (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرون في البأساء).