الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المنكرين دفعة واحدة لزمه ذلك بكلمة واحدة.
وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل سواء قدر على دفع ذلك بيده أو بلسانه: مثل أن يتمكن الغازي من قتل واحد من المشركين بسهم ومن قتل عشرة برمية واحدة تنفذ في جميعهم فإنه يقدم رمي العشرة على رمي الواحد، إلا أن يكون الواحد بطلًا عظيم النكاية في الإسلام حسن التدبير في الحروب فيبدأ برميه؛ دفعًا لمفسدة بقائه، لأنها أعظم من مفسدة بقاء العشرة.
وكذلك لو قدر على أن يفتح فوهة النار أولى من قتل المائة، لما فيه من عظم المصلحة، فإن كان فتح الفوهة أخف من قتل المائة بالسلاح.
وكذلك تتفاوت كراهة المنكر بالقلوب ـ عند العجز - عن إنكاره باليد واللسان - بتفاوت رتبة فتكون كراهة الأقبح أعظم من كراهة ما دونه. والله أعلم).
فصل - 32 - : بيان آراء العلماء في: هل من شروط وجوب إنكار المنكر غلبية الظن في إزالته
ولا يسقط عن المكلف وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ لقوله - تعالى -:{وذكِّر فإنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين} . فإنَّما عليه الأمر والنهي لا القبول؛ لقوله - تعالى -: {مَّا على الرسول إلَاّ البلاغ} .
واختلف العلماء رضي الله عنهم هل من شروط وجوب إنكار المنكر غلبة الظَّنِّ في إزالته؟
ففيه روايتان عن الإمام أحمد: إحدى الروايتين ليس من شرطه لظاهر الأدلة وجه الأولى قوله - تعالى -: {واصبر على ما أصابك} .
قال القاضي أبو يعلى - في كتاب المعتمد -: ويجب إنكار المنكر وإن لم يغلب في ظنه زواله في إحدى الروايتين نقلها أبو الحارث.
وقد سئل أحمد رضي الله عنه عن الرجل يرى منكرًا ويعلم أن لا تقبل منه - يسكت؟ فقال: إذا رأى المنكر فليغيره ما أمكنه.
قال ابن حمدان في (الرعاية الكبرى): وقيل ينكره وإن أيس من زواله أو خاف أذًى أو فتنة، والعالم والجاهل، والعدل والفاسق، والمسيب والغريب في ذلك سواء. انتهي. والله، أعلم.
وروى ابن أبى الدنيا - بإسناده - عن سفيان بن عيينة. قال: قالوا لعبد الله بن عبد العزيز في الأمر بالمعروف تأمر من لا يقبل منك؟ قال: يكون (معذورًا) قلت: عبد الله، هو عبد العزيز عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهم.
قال الذَّهبي: كان يلقب بالعمري، وكان آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر قوالًا بالحق.
وقال أبو الوفاء ابن عقيل: (إذا غلب على ظنه أنه لا يزول، فروايتان عن الإمام أحمد: إحداهما يجب).
قال شيخ مشايخنا عبد القادر الكيلاني - قدَّس الله روحه - (ويجوز أن يرتدع، وينزجر، ويرق قلبه، ويلحقه التوفيق والهداية، ببركة صدقة فيرجع عما هو عليه، والظن لا يمنعه من جواز إنكاره).
وقال أبو حامد الغزالي: (فإن كان غالب ظنه أنه يفيد وهو مع ذلك لا يتوقع مكروهًا فقد اختلفوا في وجوبه، إذ لا ضرر فيه وحذره متوقع، وعمومات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تقتضي الوجوب بكل حال).
وقال الإمام أحمد - في روايةٍ أخرى - في الرجل يرى منكرًا، ويعلم أنه لا يقبل منه هل يسكت؟ فقال: يغير ما أمكنه، فظاهره أنه لا يسقط.
وعنه رواية آخري: يلزمه إذا رجا حصوله - ذكره أبو الفرج بن الجوزي وقال الأرجي في نهاية المبتدئين:
يجوز الإنكار فيما لا يرجى زواله وإن خاف أذى.
وقيل: لا يجوز. وقيل: يجب.
وذكر القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء - في المعتمد - أنه لا يجب. وإذا لم يجب الإنكار ففعله أفضل من تركه، قاله ابن عقيل. وقال القاضي - خلافًا لأكثرهم في قولهم - ذلك قبيح ومكروه إلا في موضعين: أحدهما، كلمة حق عند سلطان جائر، والثاني: إظهار الإيمان عند ظهور كلمة الكفر. انتهى.
(ولا يسقط فرضه - أيضًا - بالتوهم؛ لأنه لو قيل له: لا تأمر فلانًا بالمعروف فإنه يقتلك. لم يسقط عنه لذلك، وحكى القاضي عياض عن بعضهم وجوب الإنكار مطلقًا في هذه الحال وفي غيرها).
وحكي عن ابن العربي المالكي رحمه الله أنه قال: إن رجا زوال المنكر وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل جاز له الاقتحام عند أكثر العلماء.
وسيأتي في الإنكار على السلطان - في الباب الثاني - من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله عز وجل فيه مقال أن يقوله، فيقول الله عز وجل: ما منعك أن تقول فيه. فيقول: يا رب خشيت الناس فيقول: أنا أحق أن تخشى).
وله طرق هنالك عديدة.
قال الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام: ومن قدر على إنكار المعاصي مع الخوف على نفسه كان إنكارها مندوبًا إليه ومحثوثًا عليه، لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها كما يتعزز بها في قتال المشركين، وقتال البغاة المتأولين، وقتال ما نهى الحقوق بحيث لا يمكن تحصيلها منهم إلا بالقتال.
وسيأتي في الباب الثاني - من حديث طارق بن شهاب أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أيُّ الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حقٍ عند سلطانٍ جائر). فجعلها صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد؛
لأن قائلها قد جاد بنفسه كل الجود بخلاف من يلاقي قريبه في القتال؛ فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون بذله نفسه - مع تجويز سلامتها - كبذل المنكر نفسه مع يأسه من السلامة.
قال شيخ مشايخنا عبد القادر الكيلاني - قدَّس الله روحه -: (فهل يجوز الإنكار إذا غلب على ظنه الخوف على نفسه؟ فعندنا يجوز ذلك وهو الأفضل إذا كان من أهل العزيمة والصبر فهو كالجهاد في سبيل الله مع الكفار.
قال أبو الفرج بن الجوزي: (فأما السبُّ والشتم فليس بعذرٍ في السكوت، لأن الآمر بالمعروف يلقى ذلك في الغالب).
وسيأتي - في فضل الصبر - من الباب الرابع - قول أبي داود لأحمد رحمه الله: (يشتم الآمر بالمعروف؟ قال: يحتمل. من يريد أن يأمر وينهى، لا يريد أن ينتصر بعد ذلك).
وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كان أهل قريةٍ يعملون بالمعاصي وكان فيهم أربعة نفر ينكرون ما يعملون. فقال أحدهم: إنكم تعملون كذا وكذا! !
فجعل ينهاهم ويزجرهم بقبيح ما يصنعون فجعلوا يردون عليه ولا يرجعون عن أعمالهم فسبهم فسبوه وقاتلهم فغلبوه فاعتزل. وقال: اللهم إني نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني وقاتلتهم فغلبوني ثم ذهب وقام الآخر فنهاهم فلم يطيعوه فسبهم فسبوه فاعتزل. ثم قال: اللهم إني نهيتهم فلم يطيعوني، وسببتهم فسبوني ولو قاتلتهم غلبوني ثم قام الثالث فنهاهم فلم يطيعوه فاعتزل. ثم قال اللهم إني نهيتهم فلم يطيعوني ولو سبيتهم لسبوني ولو قاتلتهم غلبوني ثم ذهب. وقام الرابع وقال: اللهم إني لو نهيتهم لم يطيعوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم غلبوني ثم ذهب فاعتزلهم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: كان الرابع أدناهم منزلة وقليل فيكم مثله.
ولا يسقط وجوبه - أيضًا - بتأويل ولا مداهنة.
قال أبو داود سليمان بن الأشعث: (سئل أبو عبدالله يعني الإمام أحمد رحمه الله -
عن رجلٍ له جار يعمل بالمنكر ينكر عليه؟ قال: نعم ينكر عليه
…
).
قال أبو طالب عمر بن الربيع: واعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حالان مخالفان للطبع والهوى، فلا ينبغي لأحد أن يدع ما يلزمه من القيام بهما بتأويل، والمؤمن لا يدع نفسه تميل إلى التأويل، لما أكَّد الله - سبحانه - بقوله:{لَاّ تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يؤادُّون من حادَّ الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم} .
فلا يسع أحدًا بعد هذا أن يدفع عن نفسه شيئًا مما وجب عليه القيام لله به بتأويل يريد أن يسقط عن نفسه شيئًا مما وجب عليه وجوب فرض لله - تعالى -.
وكذلك لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، زعمًا أن ذلك رضا بقضاء الله - تعالى - كما غلط فيه بعض المنحرفين والبطالين وقالوا: إن المعاصي والفجور وغير ذلك - من القبائح الظاهرة والباطنة - من قضاء الله وقدره، فيجب الرضا به وعدم التعرض إلى فاعله بقول أو فعل ولو بالكراهة فقد تلبس عليهم حتى رأوا السكوت على المنكرات مقامًا من مقامات الرضا، وسموه حسن الخلق، وحتى ذهبوا إلى ترك الدعاء زاعمين أن ذلك رضاء بوجود القضاء. فهذا كله جهل بالتأويل وغفلة عن فهم معنى التنزيل، فقد ذم - سبحانه - من رضي بالمعاصي، وما يتعلق بها من أمور الدنيا المذمومة حيث قال:{ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها} .
وقال - تعالى -: {رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم} .
وفي الأحاديث المشهورة ما يدل على أن من رضي بمنكر كان شريكًا لفاعله - كما سيأتي في هذا الباب وغيره.
بل من أسباب رضا الله - تعالى - على العبد كراهة معاصيه، والمبادرة بالإنكار على أهلها والقيام بما أوجبه - سبحانه - عليه من ذلك.
وأنشدوا:
يا طالب الأمر لا تركن إلى الكسل
…
واعجل فقد خلق الإنسان من عجل
واستشعر الصبر وانه من لمحة وقل
…
أعوذ بالله من علم بلا عمل