الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأنشدوا:
قالوا: سكت وقد خوصت فقلت لهم
…
إن الجواب لباب الشر مفتاح
الصمت عن جاهل أو أحمق كرما
…
أيضًا وفيه لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تمشي وهي صامتة
…
والكلب يخشى- لعمري- وهو نباح
وروى البيهقي- في الشعب- بسنده، عن أحمد بن عبيد. قال: أنشدني الأصمعي- رحمه الله:
وما شيء أحب إلى سفيه
…
إذا سب الكريم من الجواب
متاركة السفيه بلا جواب
…
أشد على السفيه من السباب
ولبعضهم:
وكم من لئين ود أني شتمته
…
وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم
والكف عن شتم اللئيم تكرما
…
أضر به من شتمه حين يشتم
قال أسماء بن خارجة: ما شتمت أحدًا قط، لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها له وإن شتمني لئيم فلا أجعل عرضي له غرضًا.
وكان يتمثل وينشد:
واغفر عور الكريم اصطناعة
…
وأعرض عن ذات تكرما
وأنشد رجل لمسعر بن كدام:
لا ترجعن إلى السفيه خطابه
…
إلا جواب تحيه حياكها
فمتى تحركه تحرك جيفة
…
تزداد نتنا ما أردت حراكها
ولبعضهم:
وإذا بليت بجاهل متجاهل
…
بجد المحال من الأمور صوابا
أوليته من السكون وربما
…
كان السكوت عن الجواب جوابا
فصل (14): على الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر أن يقابل إساءة المأمورين بالإحسان
وجميع ما تقدم آنفًا يتضمن التغافل. وترك المقابلة على الإساءة ونسيان الأذى. لكن
فوق ذلك درجة أخرى. وهي الإحسان إلى من أساء إليك ومعاملته بضد ما عاملك به. بل يعتذر إليه ويستغفر لديك كما قال منشدًا:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم
…
وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
ومعنى ذلك أنك تنزل نفسك منزلة الجاني لا المجني عليه. لأن الجاني خليق بالعذر.
ولبعضهم:
رب رام لي بأحجار الأذى
…
لم أجد بدًا من العطف عليه
ولغيره:
ولما رضوا بالحلم عن ذي ذلة
…
حتى أنالوا كفه وأفادوا
وتكون هذه المعاملة منك صادرة عن سماح وطيب نفس وانشراح صدر لا عن كظم غيظ ومصابرة. ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سوى نبينا صلى الله عليه وسلم ثم للورثة منها بحسب سهامهم من التركة، لأن حلمه غير محدود كما قد ملأ عفوه كل الوجود. فإنه جمع الآداب الشريفة والمعارف المنيفة، والفضائل المقصودة، والأخلاق المحمودة. حيث سواه سبحانه فعدل تركيبه، وأدبه فأحسن تأديبه، وجبله على الصيانة والعفاف. وعدل به ميزان العدل والإنصاف، وكان أكثر الناس حياء وأوفرهم على العورات إغضاء، وأدومهم بشرًا وأنسًا وأبسطهم خلقًا وأطيبهم نفسًا، يصل من قطعه ويعطي من منعه ويأمر بالحسنة ويدني أهلها ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح. ويتجاوز عن المسيء ويسمح وكم أعرض عن جاهل ومعاند. وما ضرب بيده شيئًا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله اللهم صلِّ وسلِّم على محمد الحامد بجميع المحامد.
وفي الصحيحين ومسند أحمد وسنن ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه قال: (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفة من حنين. وفي ثوب بلال فضة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها ويعطي الناس فقال: يا محمد: اعدل فقال: ويلك. وم يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل.
فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. إن هذا وأصحابه يقرؤن القرآن ولا
يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية).
هذا لفظ الصحيحين وأحمد، وفي رواية البخاري قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة. إذ قال له رجل: اعدل. فقال له: لقد شقيت إن لم أعدل.
ولابن ماجه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة وهو يقسم التبر والغنائم. وهو في حجر بلال. فقال رجل: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فقال: ويحك من يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا في أصحاب له يقرؤون القرآن) فذكره الرجل المبهم القائل هو ذو الخويصرة حرقوص بن زهير. وقيل: نافع التميمي. وقيل: عبد الله بن ذي الخويصرة. والله أعلم.
ومن أعظم ما ورد في عفوه وحلمه- صلى الله عليه وسلم ما ثبت في الصحيحين، ومسند أحمد وسنن أبي داود من حديث أنس بن مالك- رضي الله عنه أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة ليأكل منها- فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت قتلك. فقال: (ما كان الله ليسلطك علي)"فقالوا: ألا تقتلها؟ قال: لا".
وروى نحوه البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة.
وروى نحوه أبو داود من حديث محمد بن شهاب الزهري. قال: "كان جابر يحدث أن يهودية من خيبر سمت شاة مصلية، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ الذراع فأكل منها، وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارفعوا أيديكم) وأرسل إلى اليهودية فدعاها. فقال لها: (أسممت الشاة؟ ) قالت اليهودية: من أخبرك؟ قال: (أخبرتني هذه الذراع التي في يدي) قالت: نعم. قال: (فما أردت في ذلك؟ ) قالت: قلت إن كان نبيًا فلن يضره، وإن لم يكن نبيًا استرحنا منه، فعفا عنها، ولم يعاقبها، وتوفي أصحابه الذين أكلوا من الشاة".
وفي رواية عن أبي سلمة نحوه وفيها: "فمات بشر بن البراء بن معرور الأنصاري" الحديث. وفيه: فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت.
وروى نحوه الدارقطني وفيه فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلبت.
والجمع بين الأحاديث في قتلها، والعفو عنها أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم عفا عنها في أول الأمر، فلما مات بشر بن البراء طلبها وقتلها قصاصًا. والله أعلم. واليهودية واضعة السم اسمها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودي. والله أعلم وقد سبق من حديث الترمذي- في الشمائل- من حديث عائشة- رضي الله عنها قالت:"ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرًا من مظلمة ظلمها قط ما لم تكن حرمة من محارم الله- تعالى- وما ضرب بيده شيئًا إلا أن يجاهد في سبيله، وما ضرب خادمًا ولا امرأة".
وفي مسند الإمام أحمد، وسنن النسائي من حديث زيد بن أرقم. قال: سحر النبي- صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود. قال فاشتكى لذلك أيامًا فجاءه جبريل فقال: إن رجلًا من اليهود سحرك، عقد لك عقدًا في بئر كذا وكذا فأرسل إليها فجيء بها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًا فاستخرجها فجاء بها فحللها. قال: فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال. قال: فما ذكر ذلك لذلك اليهودي ولا رآه في وجهه قط حتى مات.
وروى ابن أبي الدنيا بسنده، عن عائشة- أيضًا- قالت: والله ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه حتى ينتهك من محارم الله فينتقم لله- عز وجل.
وفي الصحيحين، ومسند أحمد من حديث أنس- رضي الله عنه قال:"كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية. فأدركه أعرابي. فجذبه بردائه جذبة شديدة. فنظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الراء من شدة جذبته. ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله عندك. فالتفت إليه. فضحك. ثم أمر له بعطاء".
وللحديث روايات وطرق.
ورواه ابن ماجه إلى قوله: (غليظ الحاشية) والله أعلم.
فأحاديث حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه عند المقدرة وإحسانه إلى من أساء إليه أكثر من أن يؤتى عليها، وكذلك أصحابه والتابعون وتابعوهم والصالحون.
وسب رجل أبا بكر الصديق- رضي الله عنه فقال: ما ستر الله عنك أكثر.
ومر عيسى ابن مريم- عليه السلام بقوم من اليهود فقالوا له شرًا. فقال لهم خيرًا. فقيل: إنهم يقولون شرًا، وأنت تقول خيرًا. فقال: كل أحد ينفق مما عنده.
وأنشدوا- في كان وكان-:
فكل شخص لسانوا
…
من قدر قلبوا يغترف
إذا كان طيب فطيب
…
وإن كان غيرو بان
(وقالوا: فلان في الورى لك شاتم
…
وأنت له- في الناس- تثني وتمدح
فقلت: دعوه ما تعد خالصه
…
فكل إنا بالذي فيه ينضح
وذكر أبو الفرج بن الجوزي، عن إبراهيم بن حمزة. قال: أتى عمر بن الخطاب- رضي الله عنه ببرود، فقسمها بين المهاجرين والأنصار، وكان فيها برد فاضل لها. فقال: إن أعطيته أحدًا منهم غضب أصحابه، ورأوا أني فضلته عليهم. فدلوني على فتى من قريش نشأ نشأة حسنة أعطيه إياها، فسموا له المسور بن مخرمة، فدعه إليه، فنظر إليه سعد بن أبي وقاص على المسور- رضي الله عنهما. فقال: ما هذا؟ قال: كسانيه أمير المؤمنين. فجاء سعد إلى عمر. فقال: تكسوني هذا البرد، وتكسو ابن أخي مسورًا أفضل منه. قال له: يا أبا إسحاق إني كرهت أن أعطيه أحدًا منكم فيغضب أصحابه فأعطيته فتى نشأ نشأة حسنة، لا تتوهموا أني فضلته عليكم .. فقال سعد: فإني قد حلفت لأضربن بالبرد الذي أعطيته رأسك فخضع له عمر رأسه، وقال: عبدك يا أبا إسحاق وليرفق الشيخ بالشيخ فضرب رأسه بالبرد.
ودعا علي- رضي الله عنه غلامًا فلم يجبه، فدعاه ثانية فلم يجبه، فقام إليه فرآه مضطجعًا. فقال: أما تسمع يا غلام؟ فقال: بلى. قال: فما حملك على السكوت. فقال: أمنت عقوبتك فتكاسلت فقال: امض فأنت حر لوجه الله.
وشتم رجل أبا ذر- رضي الله عنه فقال: يا هذا لا تستغرق في شتمنا. ودع
للصلح موضعًا، فإنا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وكان أويس القرني: إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فيقول: يا إخوتاه، إن كان ولا بد فبالصغار، لا تدمون ساقي فتمنعوني الصلاة.
وشتم سلمان الفارسي- رضي الله عنه فقال: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول.
وروى الإمام- أحمد- في الزاهد، وابن أبي الدنيا- بسنديهما عن عمر بن حفص، عن شيخ قال: لما ولى عمر بن عبد العزيز- رحمة الله عليه- خرج ليلة ومعه حرسي، فدخل المسجد، فمر في الظلمة برجل نايم فعثر به، فرفع رأسه إليه. قال: أمجنون أنت؟ قال: لا. فهم به الحرسي. فقال له (عمر) معه إنما سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا.
وذكر أبو الفرح بن الجوزي، عن إبراهيم بن أبي عبلة. قال: غضب عمر بن عبد العزيز على رجل غضبًا شديدًا، فبعث إليه، فأتى به فجرده ومده في الحبال، ثم دعا بالسياط حتى قلنا: هو ضاربه. قال: خلوا سبيله، لو أني غضبان لسؤتك. ثم تلا:{والكاظمين الغيظ والعافين عن النَّاس والله يحب المحسنين} .
وذكر ابن الجوزي أيضًا عن سفيان قال: نال رجل من عمر بن عبد العزيز، فقال له: ما يمنعك مني؟ فقال: إن التقي ملجم.
وأسمعه رجل بعض ما يكره. فقال له: مه يا هذا كأنك أردت بكلامك هذا أن يستفزني الشيطان بعز السلطان، فأنال منك ما تستقصه مني. إذهب راشدًا، هداك الله.
وأنشدوا:
وذو سفه يخاطبني بجهل
…
وأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلمًا
…
كعود زاده الإحراق طيبا
وروي أن رجلًا شتم الأحنف بن قيس واسمه الضحاك. وقيل صخر وكان ذلك الرجل يتبعه فلما قرب من الحي وقف. فقال: إن كان في قلبك شيء فقله، كي لا يسمعك سفاء الحي فيحاربوك.
وذكر عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي: أن رجلًا أتى الأحنف فلطمه فقال: ما شأنك؟ قال: اجتعلت لي جعلًا على أن ألطم سيد بني تميم. فقال: ما أنا بسيدهم وإنما سيدهم الحارثة بن قدامة، فذهب الرجل فلطم حارثة فأخرج حارثة سكينًا فقطع يد ذلك. فقال: ما أنت قطعت يدي إنما قطعها الأحنف بن قيس.
وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ فقال: من قيس بن عاصم فقيل: وماذا بلغ من حلمه؟ قال: قال: بينا هو جالس في داره إذ جاءته خادمة له بسفود من شواء، فسقط من يدها فوقع على ابنة له فماتت، فدهشت الجارية. فقال: لا روعة عليك أنت حرة لوجه الله- تعالى-.
وروى البيهقي من شعب الإيمان- بسنده- عن الأحنف بن قيس أنه قال: تعلموا الحلم تعلمًا، ولقد تعلمته من قيس بن عاصم، أتي قيس بابنه قتيلًا، فجاء بقاتله وهو أحد بني عمه. فقال له: لقد نقصت عددك وأوهنت عزك، وقتلت ابن عمك وقد عفوت عنك وإن أمه لثكلى وقد حملت لها مائة من الإبل في مالي.
وقد اتخذ أهل التصوف- رضي الله عنهم التحلي بعدم الانتصار لأنفسهم، لأن حظوظ النفس شين في العقلاء فستروها بالعزم على عدم الانتصار لها حتى إنه ذكر عن بعضهم أن شخصًا سبه فأعرض عنه فقال له: أنت أعني، فقال له السيد وعنك أعرض.
وشتم الربيع بن خيثم، فقال: يا هذا قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول.
وسب رجل لعلي بن الحسين- رضي الله عنهم فرمى له بخميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم. فقال بعضهم: جمع فيه خمس خصال: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مما يبعده من الله، وحمله على الندم والتوبة، ورجوعه إلى المدح بعد الذم اشترى ذلك بيسير من الدنيا.
وشتم الشعبي رجل في ملأ من الناس فقال له: إن كنت كذابًا فغفر الله لك، وإن كنت صادقًا، فغفر الله لي.
وقالت امرأة لمالك بن دنيار- رحمه الله يا مرائي. فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي