الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والثاني: جاهلون بما يقولون ويفعلون.
قتل الجهل أهله ونجا كل من عقل
…
فاغتنم دولة الشباب واستأنف العمل
فكفى الله المؤمنين شرهم إما بصلاحهم أو بالراحة منهم.
الطبقة الثامنة: القبيحة حيث لم يكن لأهلها نية صحيحة يقومون بذلك على الضعفاء ويقصرون عن الآقوياء الشرفاء. مع قدرتهم في ذلك عليهم وإلقاء محض النصيحة إليهم. وهم ممن يحابي الأصحاب ويراعي ذوي الهيئات والأنساب. وما ذلك إلا لغرض مذموم، وأمر شيطاني مكتوم.
فصل- (1) طبقات المنهيين:
وأما القسم الثاني وهم المنهيون المأمورون الذين- بالمعاصي - يؤمنون فكما أن الآمرين على طبقات، بتفاوت المقامات، فكذلك المأمورون باختلاف الحالات.
الطبقة الأولى: وهم بعض الخلفاء والسلاطين والأمراء والمتجبرين وأرباب الحكم والرئاسة والمنتمين إليهم من أهل الفخر والنفاسة.
وكل منهم يقصد أذى من يأمره بحبسه، ويتسلط عليه بتجبره على الله وسوء أدبه. فهذا ممن لا يترك العصيان ولا يرجع بجبروته عن الطغيان حيث ذمه الله في كتابه وعمم قوله:{وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم} . ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار، لا راحة لهم ولا سكون ولا قرار، شيدوا بنيان الأمل، وإذا به قد انهار {سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار} .
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها
…
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سو، في معيشتها
…
خير في لذة من بعدما النار
يا عظيم المعاصي، يا مخبطًا جدًا، يا ظالمأ ما عتى وتعدى.
وكم جاوز حدًا، وكم أتى دنيا عمداا! .
يا أسير الهوى وقد أصبح له عبدًا، يا ناظمًا خرزات الأمل في سلك المنى عقدًا، يا معرضًا عما قد حل قد حل عقدًا.
وأنشدوا:
لا ينفع الوعظ قلبًا قاسيًا أبدا
…
وهل تلين لقلب الواعظ الحجر
قال بعضهم: من التعذيب تهذيب الذئيب.
قال علماء التفسير- عند قوله - تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم وبئس المهاد} .هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوًا كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كفى بالمرء إثمًا أن يقول له أخوه اتق الله فيقول: عليك بنفسك مثلك يأمرني ويوصيني. و (أخذته) أي حملته. و (العزة) القوة والغلبة. وقيل الحمية. وقيل المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته).
قال قتادة: المعنى إذا قيل له: مهلًا ازداد إقدامًا على المعصية.
قال القرطبي: والمعنى حملته العزة على الإثم. وقيل أخذته العزة بما يؤثمه. أي ارتكب الكبر للعزة وحمية الجاهلية. ونظيره قوله تعالى: {بل الذين كفروا في عزة وشقاق} .
وقيل الباء في قوله (بالإثم) بمعنى اللام أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه وهو النفاق.
قال بعض العارفين: هؤلاء قوم استولى عليهم التكبر وزال عنهم خضوع الإنصاف فشمخت أنوفهم عن قبول الحق فإذا أمرته بمعروف قال: ألمثلي يقال هذا؟ ! وأنا كذا وكذا وأنت أولى بأن تؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا، ولو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة لتقلد المنة لمن هداه إلى رؤية خطئه ونبهه عن سوء وصفه.
قوله تعالى: {فحسبه جهنم} أي كافيه عقابًا وجزاءَا. (المهاد) الموضع المهيأ للنوم وسميت جهنم مهادًا. لأنها مستقر الكفار وكان عمر بن الخطاب إذا قرأ هذه الآية قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
ذكر أبو عبد الله القرطبي أن يهوديًا كانت له حاجة عند هارون الرشيد فاختلف إلى بابه سنة فلم يقض حاجته فوقف يومًا على الباب فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل هارون عن دابته وخر ساجدًا فلما رفع رأسه أمر
بحاجته فقضيت. فلما رجع قيل له: يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك لقول يهودي؟ قال: لا ولكن ذكرت قول الله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} .
فالذي يجب على المأمور بالمعروف المنهي عن المنكر أن يتلقى الأمر والنهي بالقبول من غير أن يتأثر بعزة نفس وتكبر يمنعه من قبول الحق. وألا يلقى النصح بالشر فيعمه الذم والتوعد، قال تعالى:{ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه} .
وقال الله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون} ، أي لا أجد أظلم لنفسه ممن وعظ بحجج الله وعلاماته فتهاون بها وأعرض عنها وعن قائلها ونسي ما قامت يداه من الكفر والمعاصي فلم يتب منها ولا رجع عن غيه.
غه
وقد كان السلف يحبون من أمرهم ونهاهم وأهدى إليهم عيوبهم.
كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله امرءًا أهدى إلينا مساوئنا، وكان يقول: رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي.
وكان يسأل سلمان الفارسي عن عيوبه لما قدم عليه وقال: ما الذي بلغك عني مما كرهته؟ فاستعغاه فألح عليه. قال: سمعت أنك جمعت بين أدمين على مائدة وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل. قال وهل بلغك غير هذا؟ قال: لا. قال: أما هذان فقد كفيتهما.
قال عمر- أيضًا - في خطبة خطبها: لو صرفناكم عما تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ قال ذلك ثلاثًا فقام علي فقال: يا أمير المؤمنين كنا نستتيبك فإن تبت قبلناك. قال فإن لم افعل؟ قال: إذن نضرب الذي فيه عيناك. فقال عمر: الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من إذا اعوججنا أقام أودنا.
وكان عمر- أيضًا - يسأل حذيفة ويقول: أنت صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين فهل ترى علي من آثار النفاق شيئًا؟
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: رأيتك تسحب ذيلك، قال: فهلا قلت لي؟ قال: هبتك قال: أما علمت أن لقائل الحق من الله سلطانًا؟ .
وقال الحسن البصري: كان بين "عمر" وبين رجل كلام في شيء. فقال له الرجل: اتق الله يا أمير المؤمنين. فقال له رجل من القوم: تقول لأمير المؤمنين: اتق الله! قال: دّعه فليقلها لي، نعم ما قال. ثم قال "عمر": لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نقبلها منكم.
قال الحسن- أيضًا - المسلم أخو المسلم يبصره عيوبه ويغفر له ذنوبه، إن من كان قبلكم من السلف الصالح يلقى الرجلُ الرجلَ فيقول يا أخي ما كل ذنوبي أبصر، ولا كل عيوبي أعرف فإذا رأيت خيرًا فمرني وإذا رأيت شرًا فانهني. وقال الإمام أحمد: لا نزال بخير ما كان في الناس من ينكر علينا.
وقال بعض السلف: رحم الله من بصرني عيوبي، فإن النفس تعمى عن عيبها.
وقال يحيى بن معاذ- قدس الله روحه: اجعل (حبيبك) من عرفك العيوب. وصديقك من حذرك الذنوب. وقال بعضهم: من أحبك نهاك، ومن أبغضك ما نهاك.
وكان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له: ألا تخالط الناس؟ فقال: ماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي.
قال بعضهم: كلمة لك من أخيك خير لك من مال يخذيك، فإن الحكمة تحييك والمال يطفيك.
وروى البيهقي- بسنده - عن الاوزاعي - قال: سمعت بلال بن سعد - رحمة الله عليه- يقول: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله خير لك من أخ كلما لقيك وضع في يدك دينارًا.
وقال "القمان" لابنه: لأن يضربك الحكيم فيؤذيك، خير من أن يدهنك بدهن طيب.
والمقصود أنه كان أمنية ذوي الدين أن ينبهوا غيرهم، وأن يبذل لهم النصح.
وقد آل الأمر إلى أن بقي أبغض الناس إلينا من ناصحنا وعرفنا عيوبنا، وكاد يكون هذا مفصحًا عن ضعف الإيمان وعدم العرفان، فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة. ولو نبهنا منبه على أن تحت ثوب أحدنا عقربًا لتقلدنا منته، وفرحنا بذلك واشتغلنا بإبعاد العقرب وقتلها مع أن نكايتها على البدن لا تستمر إلا يومًا أو دونه. ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب ونخشى أن تدوم غوائلها بعد الموت أبد الآباد. ثم إننا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا يشتغل بإزالتها بل يشتغل بمعاملة الناصح بمثله. وتقول: وأنت - أيضًا - تصنع كيت وكيت، وتشعل العداوة معه عن الانتفاع بنصحه.
كما قال بعض السلف: الأحمق يغضب من الحق، والعاقل يغضب من الباطل.
قال أبو حامل الغزالي رحمه الله: فمن ذمك وأظهر لك النصح لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون قد صدق فيما قال، قصد النصح والشفقة - وإما أن يكون صادقًا ولكن قصده الإيذاء والتعنّت، أو يكون كاذبًا.
(فإن كان صادقًا وقصده النصح) فلا ينبغي أن تذمه، وتغضب عليه وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد (منته) فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى معرفة الصفة المهلكة حتى تنقيها فينبغي أن تفرح به، وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها. في ما اغتمامك بسببه، وكراهتك له، وذمك إياه غاية الجهل.
وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله، إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلًا به أو ذكرك عيبك إن كنت غافلًا عنه، أو قبحه في عينك، لينبعث حرصك إلى إزالته إن كنت قد استحسنته. وكل ذلك أسباب سعادته وقد استفدته منه. فمهما قصدت الدخول على ملك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري، ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يجز رقبتك، لتلويثك مجلسه بالعذرة. وقال لك قائل: أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك، فينبغي أن تفرح به، لأن تنبيهك بقوله غنيمة.
وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة، والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه.
وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منك عليك - فلم تغضب عليه بفعل انتفعت أنت به، وتضرر هو به؟
الحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله فينبغي أن لا تكره ذلك العيب ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور:
أحدها: أنك خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله، وما ستر الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله، إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء منه عند الله.
الأمر الثاني: أن ذلك كفارات لبقية مساوئك وذنوبك وكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها. وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته، وكل من مدحك فقد قطع ظهرك - فما بالك تفرح بقطع الظهر، ولا تفرح بهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله.
الأمر الثالث: أن السكين جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه
بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب مع غضب الله عليه فتشمت الشيطان به وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه- كما قال صلى الله عليه وسلم حين شجعه قومه وضربوه: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ودعاء إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة: (فقيل له في ذلك) فقال اعلم أني مأجور على ذلك فلا أرضى أن يكون هو معاقبًا بسببي. انتهى.
فسبحان من أغوى وأرشد، وأشقى وأسعد، ونسأله - تعالى - أن يعرفنا طريق رشدنا، ويبصرنا بعيوب أنفسنا، ويوقظنا بشكر من يطلعنا عليها بفضله وإحسانه وجوده وامتنانه فهو الحاكم في جميع الأفعال، اللطيف الكبير المتعال.
ولنرجع - الآن - إلى طبقات المأمورين بالمعروف المنهيين عن المنكر.
الطبقة الثانية: من ليس له وجاهة بين العوام لكنهم أوغاد أغمار لئام مرفوعون على الناس ببعض وصلة بالدولة ولكل منهم بحسب إيصاله صولة ذكرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار ويكفيهم اتسامهم بالأشرار فإن أمروا أو نهوا لا يسمعون وإن أرهبوا لا يرهبون.
كما قيل:
إذا غلب الشقاء على السفيه
…
تنطع في مخالفة الفقيه
فقد أنفذ الله تعالى حكمه فيهم وأبرم، وقصه في كتابه العزيز الذي أنزله وأحكم، فقال عز من قائل - فيمن سبق قضاؤه فيهم بدمارهم، وجرى القلم في القديم ببوارهم:{أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم} ثم قال: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون} {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} .
قال للمقيمين على معاصيهم وجهلهم، الناسين من سبقهم من أهلهم، المصرين على قبح فعلهم.
نظم:
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة
…
كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر
فهم قوم إذا ذكروا لا يذكرون وإذا وعظوا لا يتعظون.
ولبعضهم في كان وكان:
وإن تكن يا بني معنا على فؤادك قد ختم
…
فليسف لى فيك حيلة فضل الدواء قد فات
كم لعب الردى بمثلهم، وتولع في اجتثاث أصلهم، افترى ما يكفي في توبيخهم وعزلهم:{فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم} .
ولبعضهم:
إن كان غيرك قد أجاب الداعي
…
كأنني بك قد تعالى الناعي
قد طال باعك والمنية بعدها
…
فليس إذا طالت قصيرة باعي
وملأت سمعك بالمواعظ ظاهرًا
…
حتى اشتهرت به وليسر بواعي
تسعى بنفسك في المتالف جاهدًا
…
لا تفعلن وأرفق بها يا ساعٍ
كم قد غررت بظاهر متجمل
…
مثل الشراب جرى ببطن القاع
وقال مجاهد: هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به والمعنى أن هذا الكافر إن زجرته لا ينزجر وإن تركته لم يهتد. فالحالتان كحالتي الكلب إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثًا، وإن ترك كان لاهثًا. قال القتيبي: كل شيء يلهث وغن يلهث ففي إعياء أو عطش إلا الكلب فإنه يلهث في حال الكلال وحال الراحة، وفي حالة الري وفي حالة العطش فضربه الله مثلًا لمن كذب بآياته فقال: إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث وإن تركته على حاله لهث. وذكر الواحدي، وغيره (عند) تفسير قوله- تعالى-في قصة بلعام بن باعور:{فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} . عن ابن عباس معناه: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن ترك لم يهتد لخير كالكلب إن كان راضيًا لهث وإن طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا ينيب إلى الحق دعي أم لم (يدع)، وعظ أو لم يوعظ،
وذلك أن بلعام زجر ونهي عن الدعاء على موسى فلم ينزجر ولم ينتفع بالزجر فحصل له ما حصل.
وقال تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} أي لا أحد أظلم لنفسه ممن وعظ بآيات الله فتهاون بها واعرض عن قبولها {ونسي ما قدمت يداه} أي ترك كفره ومعاصيه فلم يتب منها. والنسيان - هنا - الترك.
فانظر لنفسك قبل أن يعمى الناظر وتفكر في أمرك بالقلب الحاضر، فشتان بين الفساق وأهل الصلاح. أين أهل الخسران من أرباب الأرباح؟ فالمعصية ليل مظلم، والطاعة مصباح.
الطبقة الثالثة: قوم طمس الله على قلوبهم فلم يهدهم إلى نظر عيوبهم، يؤمر أحدهم فلا يسمع وينهى عن المنكر فلا يرجع ولا ينزع.
كما قيل: لا تعذليه فإن العذل يولعه
…
قد قلت حقًا ولكن ليس يسمعه
بل يتول لآمره مقالة مفترى:
يا هذا أنت ما تدخل ني تبري، عليك في الأمر بنفسك وأصلح ما فسد من أهلك وكل شاة معلقة بعرقوبها.
فذلك من أقبح خطيات النفس وذنوبها، ومن قسي قلبه صمت مسامعه عن المواعظ حتى ينفذ القدر. {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} {يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون} .
فهذا ممن ينادي عليه لسان الكون في كل أوان ولحظة وساعة وزمان: يا حاملًا من الذنوب أثقالا، يا مطمئنًا ستنقل لابد انتقالا، يا مرسلًا عنان لهوه في ميدان زهوه إرسالا، كأنك بعينيك حين عرض الكتاب عليك قد سالا.
وأنشدوا:
فشغلت بالشهوات منك خواطرا
…
وفررت من نمح الصيح وعتبه
أغضبت ربك في خلافك أمره
…
فبقيت من رهط اللعين وحزبه
فارجع إليه بتوبة وندامة
…
إن السلامة كلها في قربه
وعظ:
أين المعترف بما جناه؟ أين المعتذر إلى مولاه؟ أين التائب من خطاياه؟ أين الآيب من سفر هواه؟ نيران الاعتراف تأكل حطب الاقتراف، مناجيق الزفرات تهدم حصون السيئات، مياه الحسرات تغسل أنجاس الخطيات. فإن طلبت النجاة دم على قرع الباب، وزاحم أهل التقى والآداب، ولا تبرح وإن لم يفتح، فرب نجاح بعد الإياس، ورب غنى بعد الإفلاس فإذا تبت من ذنوبك فاندم على عيوبك، وامح بدموعك قبيح مكتوبك.
الطبقة الرابعة: قوم أصروا على معاصيهم - استكبارًا - يقاتلون من يأمرهم بالقول السيء جهارًا كما شوهد ونسمع مرارًا مثل قول بعضهم: ممار فرعون مذكرًا! ! . أو بقي هامان في زماننا آمرًا. ثم يحمله شيطانه إلى التعدي إلى البهتان، فيقول لآمره: نسيت نفسك "لا إله إلا الله" يا فلان.
فيذكرون هذه الكلمة العظيمة في ذا المقام، وما يشعرون بما عليهم من الآثام كأ نهم - من جهلهم - لا يعلمون. صم بكم عمي فهم لا يعقلون.
يا من هو في لجة بحر الهوى يسبح
…
جملك بما آنت في أقبح
ستبكي على خسرانك إذا رأيت من يربح .... أيستوي ليل وفجر قد أصبح
يا من يدعى إلى نجاته فلا يجيب، يا من قد رضي أن يخسر ويخيب إن أمرك طريف وحالك عجيب. وأنشدوا:
فقلبك قلب لا يلين لواعظ
…
ذنوبك والزلات في الكتب تكتب
فلو كنت تدري نحت مع كل نائح
…
وكنت على التفريط في الليل- تندب
ولكن حلم الله غرك يا فتى
…
فأصبحت في الدنيا تخوض وتلعب
فمن كتب عليه العطب كيف يسلم؟ ومن عمي قلبه كيف يفهم؟ ومن أمرضه طبيبه كيف لا يسقم؟ ومن أعوج- في أصل وضعه - فبعيد أن يتقوم ومن خلق للشقاء فللشقاء يكون.
لقد نودي على المطرودين لكن لا يسمعون! ! خاب المتجهرمون بالمعاصي، وفاز {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} .
يا معرضًا عن لوم من لام، وعتب من (لحا) لقد أتعبت النصحاء الفصحاء
أما وعظت بما يكفي؟ أما رأيت من العبر- ما يشفي؟ يا من بين يديه يوم لا شك فيه ولا مرى، يقع - فيه - الفراق وتنفصم العرى، تدبر أمرك قبل أن تحضر وترى، وانظر لنفسك نظر من قدمهم ما جرى، قبل أن يغضب الحاكم والحاكم رب الورى:{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا}
الطبقة الخامسة: من يقبل الأوامر والنواهي علانية وجهرًا، وإذا ارتكب الذنوب خفية وسرًا، فيكون قبوله للأمر والنهي تقية، وإذا غاب عمن يأمره عاد إلى البرية، حيث لا يكون أحد مما يخافه لديه، فيجعل الله- تعالى- أهون الناظرين إليه كما قيل:
إذا ظلمة الليل انجلت بصفائها
…
تعود لعينيه ظلامًا كما هيا
فهذا الصنف ثري ممن قال الله فيهم: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون} .
يا منعكفًا على ذلله وذنبه، لا يؤثر عنده أليم عتبه، يا من يبارز مولاه بما يكره، ويخالفه في أمره آمنًا مكره، يا من قبائحه ترفع عشيًا وبكرة، يا قليل الزاد ما أطول السفرة، والنقلة قد دنت والمصير إلى الحفرة.
متى تعمل في قلبك المواعظ، متى تراقب العواقب وتلاحظ؟ ! أما تحذر من أوعد وتهدد، أما تخاف من أنذر وتشدد، متى تضرم نار الحرب في قلبك وتتوقد، إلى متى بين القصور والغواني تتردد.
يا سكران الهوى، والى الآن ناصحًا، يا مفني زمانه الشريف لهوًا ومرحًا، يا من كلما بنى نقض، وحيثما رفع انخفض- يا عجيب الداء والمرض، كم مضرور بعد النفع. كم مدفوع عن إعراضه أقبح الدفع - أسفًا لمن إذا ربح العاملون خسر، وإذا أطلق المتقون أسر.
الطبقة السادسة: من يسمع ويطيع وتؤثر فيه المواعظ، والتقريع، فيحدث توبة خالصة في الوقت، رغبة في الثواب ورهبة في المقت ولا يتأخر- عن ذلك - ساعة ولا دقيقة، ويعقد مع الله عهودًا أكيدة ووثيقة بعدم العودة إلى ما كان عليه، وندم على ما أسلف من الذنوب بين يديه.
ويحل عقد الأسرار، ويكثر من ذكر الله والاستغفار.