الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل (16)
ومن أحسن ما تقل في العفو، ما ذكر أبو الفرج بن الجوزي. قال: كنا نجلس إلى الوزير أبي المظفر عون الدين يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي فيملي علينا كتابه "الإفصاح" فبينما نحن كذلك إذ قدم رجل ومعه رجل ادعى عليه أنه قتل أخاه. فقال له "عون الدين" أقتلته؟ قال: نعم، جرى بيني وبينه كلام فقتلته. فقال الخصم: سلمه إلينا، لنقتله فقد أقر بالقتل. فقال الوزير: أطلقوه ولا تقتلوه. قالوا: كيف ذلك وقد قتل أخانا، قال: أفتبيعونه فاشتراه منهم بستمائة درهم وسلم الذهب إليهم، وذهبوا وقالوا للقاتل: اقعد عندنا لا تبرح، قال: فجلس عندهم وأعطاه الوزير خمسين دينار. قال: فقلنا له: أحسنت إلى هذا، وعملت معه أمرًا عظيمًا، وبالغت في الإحسان إليه، فقال الوزير منكم أحد يعمل أن عيني اليمنى لا أبصر بها شيئًا؟ فقلنا: معاذ الله- تعالى- فقال: بلى، والله أتدرون ما سبب ذلك؟ قلنا: لا. قال: هذا الذي خلصته من القتل جاء إلي وأنا في الدور ومعي كتاب من الفقه أقرأ فيه ومعه سلة فاكهة. فقال: أحمل هذه السلة. فقلت له: ما هذا شغلي فاطلب غيري، فشاكلني وكلمني فقلع عيني ومضى فلم أره بعد ذلك إلى يومي هذا فذكرت ما صنع لي فأردت أن أقابل إساءته إلي بالعفو والإحسان مع القدرة. ولبعضهم:
قوم إذا ظفروا بنا
…
جادوا بعتق رقابنا
وأتي عمر بن عبد العزيز- رحمة الله عليه- برجل كان قد نذر إن أمكنه الله منه ليفعلن به وليفعلن. فقال له رجاء بن حيرة: قد فعل الله ما تحب من الظفر فافعل ما يحب من العفو.
وأنشدوا:
يعطي الكريم ولا يملك من العطا
…
والدفع شيمته إذا رفع الخطا
قال عبد الله بن المبارك: كنت عند أبي جعفر عبد الله المنصور جالسًا فأمر بقتل رجل. فقلت: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا كان يوم القيامة نادى مناد بين يدي الله: من كانت له عند الله يد فليتقدم، فلا يتقدم إلا من عفا عن ذنب) فأمر بإطلاقه.
وقال صالح ابن الإمام أحمد: دخلت على أبي يومًا، فقلت: بلغني أن رجلًا أتى إلى أبي فضل الأنماطي فقال له: اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك. فقال: فضل: لا جعلت
أحدًا في حل فتبسم إلي وسكت فلما كان بعد أيام قال لي: مررت بهذه الآية: {فمن عفا وأصلح فأجره على الله} فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني هاشم بن القاسم قال: حدثني المبارك، قال: حدثني من سمع الحسن. يقول: إذا جثت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة، ونودوا: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا. قال أبي: فجعلت الميت في حل من ضربه إياي، ثم جعل يقول: وما على رجل أن لا يعذب الله بسببه أحدًا.
وقال عبد الله ابنه: قال أبي: وجه الله الواثق أن أجعل المعتصم في حل من ضربه إياك. فقلت: ما خرجت من داره حتى جعلته في حل.
وأنشد محمود الوراق:
إني وهبت لظالمي ظلمي
…
وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إلى يدا
…
فأبان منه بجهله حلمي
وقال غيره:
وإذا المسيء جنى عليك جناية
…
فاقتله بالمعروف لا بالمنكر
وأحسن إليه إذا أساء فإنه
…
من ذي الجلال بسمع وبنظر
وقيل لبعض الأعراب: من سيدكم؟ فقال: من احتمل شتمنا، وأعطى سائلنا. وأغضى عن جاهلنا. فمن قابل المكروه بالعفو، والزلة بالحلم، والإساءة بالإحسان والسيئة بالغفران فقد أوطأ أخمص قدمه أوج السيادة وأعطى نفسه بشراها بأن له الحسنى وزيادة.
وروى البيهقي في الشعب بسنده، عن محمد بن عبد الواحد أنه كان ينشد:
لن يبلغ المجد أقوام وإن شرفوا
…
حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة
…
لا عفو ذل ولكن عفو إكرام
وقيل: إن هذين البيتين لعروة بن الزبير- رحمة الله عليه- هذا جود الفتوة. فمن قابل المكروه بالعفو، والزلة بالحلم، والإساءة بالإحسان، والسيئة بالغفران فقد أوطأ أخمص قدميه أوج السيادة وأعطى نفسه بشراها بأن له الحسنى وزيادة.
قال الله تعالى: {والجروح قصاصٌ فمن تصدق به فهو كفَّارة له}
…
وفي هذا الجود. قال الله تعالى: {وجزؤا سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحبُّ الظَّلمين} .
قال سعيد بن المسيب: لأن يخطئ الإمام في العفو خير له أن يخطئ في العقوبة.
وقال جعفر بن محمد: لأن أندم على العفو، أحب إلي أن أندم على العقوبة.
هذه والله علامات المهذبين المرتاضين، وأمارات المخلصين الصادقين. كما قال الإمام أحمد- رحمه الله في رواية إسحاق بن إبراهيم وقد جاءه رجل. فقال له: إني كنت شاربًا مسكرًا فتكلمت فيك بشيء فاجعلني في حل. فقال أبو عبد الله: أنت في حل إن لم تعد. فقلت له: يا أبا عبد الله، لم قلت له ذلك فلعله يعود؟ قال: ألم تر ما قلت له: إن لم تعد قد اشترطت عليه؟ ثم قال: ما أحسن الشروط إذا أراد أن يعود فلا يعود إن كان له دين.
وقال أبو بكر المروذي: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد الله: اجعلني في حل. قال: من أي شيء؟ قال: كنت أذكرك، أي أتكلم فيك. قال له: ولم أردت أن تذكرني. فجعل يعترف بالخطأ فقال له أبو عبد الله: على أن لا تعود لهذا. قال له نعم. قال: قم، ثم التفت إلي وهو يبتسم. فقال: لا أعلم أني شددت على أحد إلا على رجل جاءني فدق علي الباب، وقال: اجعلني في حل، فإني كنت أذكرك. فقلت: ولم أردت أن تذكرني، أي وهذا الرجل كأنه أراد منهما التوبة وأن لا يعود.
رواه الخلال- في حسن الخلق- من كتاب الأدب. فينبغي للإنسان أن لا ينزعج على من آذاه ويجاهد نفسه، ليرتاض فيقابله بالعفو والصفح، ويواجهه بما لا يواجهه به غيره من المحبين.
والمعتقدين من طيب القول وحسن العبادة، وعدم الجفاء تقربًا إلى ربه- عز وجل فإن ذلك من شيم العلماء الصلحاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، المقتدين بسنة سيد البشر- عليه أفضل الصلاة والسلام وأعلى من ذلك الجود بالعرض.
كما روى ابن أبي الدنيا وغيره: من حديث حمزة الثمالي، أن علي بن الحسين زين العابدين كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني أتصدق اليوم، أو أهب عرضي من استحل منا شيئًا من ذلك. كأبي ضمضم- رضي الله عنه فيما رواه أبو بكر بن السني من حديث أنس