الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ما لا حاجة لنا به لطوله ولأنّ عنايتنا في الأكثر إنّما هي بالمغرب الّذي هو وطن البربر وبالأوطان الّتي للعرب من المشرق والله الموفّق.
تكملة لهذه المقدمة الثانية في أن الربع الشمالي من الأرض أكثر عمرانا من الربع الجنوبي وذكر السبب في ذلك
ونحن نرى بالمشاهدة والأخبار المتواترة أن الأوّل والثّاني من الأقاليم المعمورة أقلّ عمرانا ممّا بعدهما وما وجد من عمرانه فيتخلّله الخلاء والقفار والرّمال والبحر الهنديّ الّذي في الشّرق منهما وأمم هذين الإقليمين وأناسيّهما ليست لهم الكثرة البالغة وأمصاره ومدنه كذلك والثّالث والرّابع وما بعدهما بخلاف ذلك فالقفار فيها قليلة والرّمال كذلك أو معدومة وأممها وأناسيّها تجوز الحدّ من الكثرة وأمصارها ومدنها تجاوز الحدّ عددا والعمران فيها مندرج ما بين الثّالث والسّادس والجنوب خلاء كلّه وقد ذكر كثير من الحكماء أنّ ذلك لإفراط الحرّ وقلّة ميل الشّمس فيها عن سمت الرّؤوس فلنوضح ذلك ببرهانه ويتبيّن منه سبب كثرة العمارة فيما بين الثّالث والرّابع من جانب الشّمال إلى الخامس والسّابع. فنقول إنّ قطبي الفلك الجنوبيّ والشّماليّ إذا كانا على الأفق فهنالك دائرة عظيمة تقسم الفلك بنصفين هي أعظم الدّوائر المارّة من المشرق إلى المغرب وتسمّى دائرة معدّل النّهار وقد تبيّن في موضعه من الهيئة أنّ الفلك الأعلى متحرّك من المشرق إلى المغرب حركة يوميّة يحرّك بها سائر الأفلاك في جوفه قهرا وهذه الحركة محسوسة وكذلك تبيّن أنّ للكواكب في أفلاكها حركة مخالفة لهذه الحركة وهي من المغرب إلى المشرق وتختلف آمادها باختلاف حركة الكواكب في
السّرعة والبطء وممرّات هذه الكواكب في أفلاكها توازيها كلّها دائرة عظيمة من الفلك الأعلى تقسمه بنصفين وهي دائرة فلك البروج منقسمة باثني عشر برجا وهي على ما تبيّن في موضعه مقاطعة لدائرة معدّل النّهار على نقطتين متقابلتين من البروج هما أوّل الحمل وأوّل الميزان فتقسمها دائرة معدّل النّهار بنصفين نصف مائل عن معدّل النّهار إلى الشّمال وهو من أوّل الحمل إلى آخر السّنبلة ونصف مائل عنه إلى الجنوب وهو من أوّل الميزان إلى آخر الحوت وإذا وقع القطبان على الأفق في جميع نواحي الأرض كان على سطح الأرض خطّ واحد يسامت دائرة معدّل النّهار يمرّ من المغرب إلى المشرق ويسمّى خطّ الاستواء ووقع هذا الخطّ بالرّصد على ما زعموا في مبدإ الإقليم الأوّل من الأقاليم السّبعة والعمران كلّه في الجهة الشّماليّة يرتفع عن آفاق هذا المعمور بالتّدريج إلى أن ينتهي ارتفاعه إلى أربع وستّين درجة وهنالك ينقطع العمران وهو آخر الإقليم السّابع وإذا ارتفع على الأفق تسعين درجة وهي الّتي بين القطب ودائرة معدّل النّهار على الأفق وبقيت ستّة من البروج فوق الأفق وهي الشّماليّة وستّة تحت الأفق وهي الجنوبيّة والعمارة فيما بين الأربعة والسّتين إلى التّسعين ممتنعة لأنّ الحرّ والبرد حينئذ لا يحصلان ممتزجين لبعد الزّمان بينهما فلا يحصل التّكوين فإذا الشّمس تسامت الرّؤوس على خطّ الاستواء في رأس الحمل والميزان ثمّ تميل عن المسامتة إلى رأس السّرطان ورأس الجدي ويكون نهاية ميلها عن دائرة معدّل النّهار أربعا وعشرين درجة ثمّ إذا ارتفع القطب الشّماليّ عن الأفق مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس بمقدار ارتفاعه وانخفض القطب الجنوبيّ كذلك بمقدار متساو في الثّلاثة وهو المسمّى عند أهل المواقيت عرض البلد وإذا مالت دائرة معدّل النّهار عن سمت الرّؤوس علت عليها البروج الشّماليّة مندرجة في مقدار علوّها إلى رأس السّرطان وانخفضت البروج الجنوبيّة من الأفق كذلك إلى رأس الجدي لانحرافها إلى الجانبين في أفق الاستواء كما قلناه فلا يزال الأفق الشّماليّ يرتفع حتّى يصير
أبعد الشّماليّة وهو رأس السّرطان في سمت الرّؤوس وذلك حيث يكون عرض البلد أربعا وعشرين في الحجاز وما يليه وهذا هو الميل الّذي إذا مال رأس السّرطان عن معدّل النّهار في أفق الاستواء ارتفع بارتفاع القطب الشّماليّ حتّى صار مسامتا فإذا ارتفع القطب أكثر من أربع وعشرين نزلت الشّمس عن المسامتة ولا تزال في انخفاض إلى أن يكون ارتفاع القطب أربعا وستّين ويكون انخفاض الشّمس عن المسامتة كذلك وانخفاض القطب الجنوبيّ عن الأفق مثلها فينقطع التّكوين لإفراط البرد والجمد وطول زمانه غير ممتزج بالحرّ. ثمّ إنّ الشّمس عند المسامتة وما يقاربها تبعث الأشعّة قائمة وفيما دون المسامتة على زوايا منفرجة وحادّة وإذا كانت زوايا الأشعّة قائمة عظم الضّوء وانتشر بخلافه في المنفرجة والحادّة فلهذا يكون الحرّ عند المسامتة وما يقرب منها أكثر منه فيما بعد لأنّ الضّوء سبب الحرّ والتّسخين.
ثمّ إنّ المسامتة في خطّ الاستواء تكون مرّتين في السّنة عند نقطتي الحمل والميزان وإذا مالت فغير بعيد ولا يكاد الحرّ يعتدل في آخر ميلها عند رأس السّرطان والجدي إلّا إن صعدت إلى المسامتة فتبقى الأشعّة القائمة الزّوايا تلحّ على ذلك الأفق ويطول مكثها أو يدوم فيشتعل الهواء حرارة ويفرط في شدّتها وكذا ما دامت الشّمس تسامت مرّتين فيما بعد خطّ الاستواء إلى عرض أربع وعشرين فإنّ الأشعّة ملحّة على الأفق في ذلك بقريب من إلحاحها في خطّ الاستواء وإفراط الحرّ يفعل في الهواء تجفيفا ويبسا يمنع من التّكوين لأنّه إذا أفرط الحرّ جفّت المياه والرّطوبات وفسد التّكوين في المعدن والحيوان والنّبات إذ التّكوين لا يكون إلّا بالرّطوبة ثمّ إذا مال رأس السّرطان عن سمت الرّؤوس في عرض خمس وعشرين فما بعده نزلت الشّمس عن المسامتة فيصير الحرّ إلى الاعتدال أو يميل عنه ميلا قليلا فيكون التّكوين ويتزايد على التّدريج إلى أن يفرط البرد في شدّته لقلّة الضّوء وكون الأشعّة منفرجة الزّوايا فينقص التّكوين ويفسد بيد أنّ
فساد التّكوين من جهة شدّة الحرّ أعظم منه من جهة شدّة البرد لأنّ الحرّ أسرع تأثيرا في التّجفيف من تأثير البرد في الجمد فلذلك كان العمران في الإقليم الأوّل والثّاني قليلا وفي الثّالث والرّابع والخامس متوسّطا لاعتدال الحرّ بنقصان الضّوء وفي السّادس والسّابع كثيرا لنقصان الحرّ وأنّ كيفيّة البرد لا تؤثّر عند أوّلها في فساد التّكوين كما يفعل الحرّ إذ لا تجفيف فيها إلّا عند الإفراط بما يعرض لها حينئذ من اليبس كما بعد السّابع فلهذا كان العمران في الرّبع الشّماليّ أكثر وأوفر والله أعلم. ومن هنا أخذ الحكماء خلاء خطّ الاستواء وما وراءه وأورد [1] عليهم أنّه معمور بالمشاهدة والأخبار المتواترة فكيف يتم البرهان على ذلك والظّاهر أنّهم لم يريدوا امتناع العمران فيه بالكلّيّة إنّما أدّاهم البرهان إلى أنّ فساد التّكوين فيه قويّ بإفراط الحرّ والعمران فيه إمّا ممتنع أو ممكن أقليّ وهو كذلك فإنّ خطّ الاستواء والّذي وراءه وإن كان فيه عمران كما نقل فهو قليل جدّا. وقد زعم ابن رشد أنّ خطّ الاستواء معتدل وأنّ ما وراءه في الجنوب بمثابة ما وراءه في الشّمال فيعمر منه ما عمر من هذا والّذي قاله غير ممتنع من جهة فساد التّكوين وإنّما امتنع فيما وراء خطّ الاستواء في الجنوب من جهة أنّ العنصر المائيّ غمر وجه الأرض هنالك إلى الحدّ الّذي كان مقابلة من الجهة الشّماليّة قابلا للتّكوين [2] ولمّا امتنع المعتدل لغيبة الماء تبعه ما سواه لأنّ العمران متدرّج ويأخذ في التّدريج من جهة الوجود لا من جهة الامتناع وأمّا القول بامتناعه في خطّ الاستواء فيردّه النّقل المتواتر والله أعلم. ولنرسم بعد هذا الكلام صورة الجغرافيّا كما رسمها صاحب كتاب روجار ثمّ نأخذ في تفصيل الكلام عليها إلى آخره.
[1] أورد عليه الخبر: قصّه (قاموس) .
[2]
جاء كشف اوستراليا وأميركا والقسم الواقع جنوب خط الاستواء من افريقيا مؤيدا لرأي ابن رشد.
ومبينا فساد ما كان يعتقد حينئذ من قلة، العمران جنوب خط الاستواء (عن طبعة لجنة البيان العربيّ) .