الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في تلك من التّكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التّامّة. وإذا اقتصر على التّكرار قصّرت الملكة لقلّته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلّمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النّافعة وتمكّنها. «ومن يهد الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له» . والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون في وجه الصواب في تعليم العلوم وطريق إفادته
اعلم أنّ تلقين العلوم للمتعلّمين إنّما يكون مفيدا إذا كان على التّدريج شيئا فشيئا وقليلا قليلا يلقى عليه أوّلا مسائل من كلّ باب من الفنّ هي أصول ذلك الباب. ويقرّب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوّة عقله واستعداده لقبول ما يرد [1] عليه حتّى ينتهي إلى آخر الفنّ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلّا أنّها جزئيّة وضعيفة. وغايتها أنّها هيّأته لفهم الفنّ وتحصيل مسائله. ثمّ يرجع به إلى الفنّ ثانية فيرفعه في التّلقين عن تلك الرّتبة إلى أعلى منها ويستوفي الشّرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفنّ فتجود ملكته. ثمّ يرجع به وقد شدّ فلا يترك عويصا ولا مهمّا ولا مغلقا إلّا وضّحه وفتح له مقفله فيخلص من الفنّ وقد استولى على ملكته هذا وجه التّعليم المفيد وهو كما رأيت إنّما يحصل في ثلاث تكرارات.
وقد يحصل للبعض في أقلّ من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسّر عليه وقد شاهدنا كثيرا من المعلّمين لهذا العهد الّذي أدركنا يجهلون طرق التّعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلّم في أوّل تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار
[1] وفي نسخة أخرى: يورد.
ذهنه في حلّها ويحسبون ذلك مرانا على التّعليم وصوابا فيه ويكلّفونه رعي ذلك وتحصيله ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات [1] الفنون في مبادئها وقبل أن يستعدّ لفهمها فإنّ قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا ويكون المتعلّم أوّل الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلّا في الأقلّ وعلى سبيل التّقريب والإجمال والأمثال الحسّيّة. ثمّ لا يزال الاستعداد فيه يتدرّج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفنّ وتكرارها عليه والانتقال فيها من التّقريب إلى الاستيعاب الّذي فوقه، حتّى تتمّ الملكة في الاستعداد ثمّ في التّحصيل ويحيط هو بمسائل الفنّ وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كلّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنّما أتى ذلك من سوء التّعليم. ولا ينبغي للمعلّم أن يزيد متعلّمه على فهم كتابه الّذي أكبّ على التّعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتّعليم مبتدئا كان أو منتهيا ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتّى يعيه من أوّله إلى آخره ويحصّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأنّ المتعلّم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعدّ بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنّهوض إلى ما فوق حتّى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التّحصيل وهجر العلم والتّعليم. والله يهدي من يشاء. وكذلك ينبغي لك أن لا تطوّل على المتعلّم في الفنّ الواحد بتفريق المجالس وتقطيع ما بينها لأنّه ذريعة إلى النّسيان وانقطاع مسائل الفنّ بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنّسيان كانت الملكة أيسر حصولا وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأنّ الملكات إنّما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة النّاشئة عنه. والله علّمكم ما لم تكونوا
[1] وفي نسخة أخرى: غرائب.
تعلمون. ومن المذاهب الجميلة والطّرق الواجبة في التّعليم أن لا يخلط على المتعلّم علمان معا فإنّه حينئذ قلّ أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كلّ واحد منهما إلى تفهّم الآخر فيستغلقان معا ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرّغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربّما كان ذلك أجدر لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفّق للصّواب. واعلم أيّها المتعلّم أنّي أتحفك بفائدة في تعلّمك فإن تلقّيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصّناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة وأقدّم لك مقدّمة تعينك في فهمها وذلك أنّ الفكر الإنسانيّ طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو (وجدان حركة للنّفس)[1] في البطن الأوسط من الدّماغ. تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانيّة على نظام وترتيب وتارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجّه إلى المطلوب. وقد يصوّر طرفيه [2] يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الّذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا. أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعدّدا ويصير إلى الظّفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطّبيعة الفكريّة الّتي تميّز بها البشر من بين سائر الحيوانات. ثمّ الصّناعة المنطقيّة هي كيفيّة فعل هذه الطّبيعة الفكريّة النّظريّة تصفه لتعلم سداده من خطئه وأنّها وإن كان الصّواب لها ذاتيّا إلّا أنّه قد يعرض لها الخطأ في الأقلّ من تصوّر الطّرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنّتاج فتعين المنطق للتّخلّص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق إذا أمر صناعيّ مساوق للطّبيعة الفكريّة ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمرا صناعيّا استغني عنه في الأكثر.
ولذلك تجد كثيرا من فحول النّظّار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيّما مع صدق النّيّة والتّعرّض لرحمة الله تعالى فإنّ
[1] وفي النسخة الباريسية: فعل حركة في النفس وقوة.
[2]
وفي النسخة الباريسية: طريقيه.
ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطّبيعة الفكريّة على سدادها فيفضي بالطّبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه. ثمّ من دون هذا الأمر الصّناعيّ الّذي هو المنطق مقدّمة أخرى من التّعلّم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذّهنيّة تردها [1] من مشافهة الرّسوم بالكتاب ومشافهة اللّسان بالخطاب. فلا بدّ أيّها المتعلّم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك. فأوّلا: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفّها [2] ثمّ دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثمّ القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق. ثمّ تلك المعاني مجرّدة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطّبيعة الفكريّة بالتّعرّض لرحمة الله ومواهبه. وليس كلّ أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التّعليم بسهولة، بل ربّما وقف الذّهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلّة بشغب الجدال والشّبهات وقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلّص من تلك الغمرة إلّا قليلا ممّن هداه الله. فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك [3] في فهمك أو تشغيب بالشّبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشّبهات واترك الأمر الصّناعيّ جملة وأخلص إلى فضاء الفكر الطّبيعيّ الّذي فطرت عليه. وسرّح نظرك فيه وفرّغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النّظّار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظّفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الّذي جعله الله من مقتضيات [4] هذا الفكر ونظره عليه كما قلناه وحينئذ فارجع
[1] وفي النسخة الباريسية: تؤديها.
[2]
وفي النسخة الباريسية: احفظها.
[3]
وفي النسخة الباريسية: ارتياب.
[4]
وفي النسخة الباريسية: من مفيضات.