الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنّية والمبتدعة في الاعتقادات
اعلم أنّ الله سبحانه بعث إلينا نبيّنا محمّدا صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنّعيم، وأنزل عليه الكتاب الكريم باللّسان العربيّ المبين، يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك. وكان في خلال هذا الخطاب، ومن ضروراته، ذكر صفاته سبحانه وأسمائه، ليعرّفنا بذاته، وذكر الروح المتعلّقة بنا، وذكر الوحي والملائكة، الوسائط بينه وبين رسله إلينا. وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعيّن لنا الوقت في شيء منه. وثبّت في هذا القرآن الكريم حروفا من الهجاء مقطّعة في أوائل بعض سوره، لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها. وسمّى هذه الأنواع كلّها من الكتاب متشابها. وذمّ على اتباعها فقال تعالى:«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله، وَالرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا به كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ 3: 7 [1] » وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أنّ المحكمات هي المبيّنات الثابتة الأحكام. ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم:
المحكم المتّضح المعنى. وأمّا المتشابهات فلهم فيها عبارات. فقيل هي الّتي تفتقر إلى نظر وتفسير يصحّح معناها، لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل، فتخفى دلالتها وتشتبه. وعلى هذا قال ابن عبّاس:«المتشابه يؤمن به ولا يعمل به» وقال مجاهد وعكرمة: «كلّما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه»
[1] الآية من سورة آل عمران.
وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين. وقال الثّوريّ والشّعبيّ وجماعة من علماء السلف: «المتشابه، ما لم يكن سبيل إلى علمه، كشروط السّاعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السّور، وقوله في الآية «هذه أم الكتاب» أي معظمه وغالبة والمتشابه أقلّه، وقد يردّ إلى المحكم. ثمّ ذمّ المتّبعين للمتشابه بالتّأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الّذي خوطبنا به.
وسمّاهم أهل زيغ، أي ميل عن الحقّ من الكفّار والزّنادقة وجهلة أهل البدع. وأنّ فعلهم ذلك قصد الفتنة الّتي هي الشّرك أو اللّبس على المؤمنين أو قصدا لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم.
ثمّ أخبر سبحانه بأنّه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلّا هو فقال: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله 3: 7. ثمّ أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط. فقال: والراسخون في العلم يقولون آمنّا به. ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفا، ورجّحوه على العطف لأنّ الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنّما يكون إيمانا بالشاهد، لأنّهم يعلمون التأويل حينئذ فلا يكون غيبا. ويعضد ذلك قوله:«كُلٌّ من عِنْدِ رَبِّنا 3: 7» ويدلّ على أنّ التأويل فيها غير معلوم للبشر. إنّ الألفاظ اللغويّة إنّما يفهم. منها المعاني الّتي وضعها العرب لها، فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ، وإن جاءنا من عند الله فوّضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه، فلا سبيل لنا إلى ذلك. وقد قالت عائشة رضي الله عنها:«إذا رأيتم الّذين يجادلون في القرآن، فهم الّذين عنى الله» ، فاحذروهم.
هذا مذهب السّلف في الآيات المتشابهة. وجاء في السّنّة ألفاظ مثل ذلك محملها عندهم محمل الآيات لأنّ المنبع واحد.
وإذا تقرّرت أصناف المتشابهات على ما قلناه، فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها. فأمّا ما يرجع منها على ما ذكروه إلى السّاعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وأمثال ذلك، فليس هذا والله أعلم من المتشابه، لأنّه لم يرد فيه
لفظ مجمل ولا غيره وإنّما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصّه [1] في كتابه وعلى لسان نبيّه. وقال: «إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ الله 7: 187» . والعجب ممّن عدّدا من المتشابه. وأمّا الحروف المقطّعة في أوائل السّور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة. وقد قال الزمخشريّ: فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز، لأنّ القرآن المنزل مؤلّف منها، والبشر فيها سواء، والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف. وإن عدل عن هذا الوجه الّذي يتضمّن الدلالة على الحقيقة فإنّما يكون بنقل صحيح، كقولهم في طه، إنّه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك. والنقل الصّحيح متعذّر، فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه. وأمّا الوحي والملائكة والرّوح والجنّ، فاشتباهها من حاء دلالتها الحقيقيّة لأنّها غير متعارفة، فجاء التشابه فيها من أجل ذلك. وقد ألحق بعض الناس بها كلّ ما في معناها من أحوال القيامة والجنّة والدّجّال والفتن والشروط، وما هو بخلاف العوائد المألوفة، وهو غير بعيد، إلّا أنّ الجمهور لا يوافقونهم عليه. وسيّما المتكلّمون فقد عيّنوا محاملها على ما تراه في كتبهم، ولم يبق من المتشابه إلّا الصفات الّتي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيّه، ممّا يوهم ظاهره نقصا أو تعجيزا.
وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السّلف الّذين قرّرنا مذهبهم. وتنازعوا وتطرّقت البدع إلى العقائد. فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصّحيح منه على الفاسد فنقول، «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ 11: 88» : اعلم أنّ الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنّه عالم، قادر، مريد، حيّ، سميع، بصير، متكلّم، جليل، كريم، جواد، منعم، عزيز، عظيم. وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقدم واللّسان، إلى غير ذلك من الصّفات: فمنها ما يقتضي صحّة ألوهيّة، مثل العلم والقدرة والإرادة، ثمّ الحياة الّتي هي شرط جميعها، ومنها ما هي صفة كمال، كالسمع والبصر والكلام، ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء،
[1] كذا. وفي نسخة. بنعته.
وكالوجه واليدين والعينين الّتي هي صفات المحدثات. ثمّ أخبر الشارع أنّا نرى ربّنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر، لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصّحيح.
فأمّا السّلف من الصحابة والتابعين فأثبتوا له صفات الألوهيّة والكمال وفوّضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله. ثمّ اختلف الناس من بعدهم، وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاما ذهنيّة مجرّدة، ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته، وسمّوا ذلك توحيدا، وجعلوا الإنسان خالقا لأفعاله، ولا تتعلّق بها قدرة الله تعالى، سيّما الشرور والمعاصي منها، إذ يمتنع على الحكيم فعلها. وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه. وسمّوا ذلك عدلا، بعد أن كانوا أوّلا يقولون بنفي القدر، وأنّ الأمر كلّه مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك، كما ورد في الصّحيح. وأنّ عبد الله بن عمر تبرّأ من معبد الجهنيّ وأصحابه القائلين بذلك. وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي، منهم، تلميذ الحسن البصريّ، لعهد عبد الملك بن مروان. ثمّ آخرا إلى معمّر السّلميّ، ورجعوا عن القول به. وكان منهم أبو الهذيل العلّاف، وهو شيخ المعتزلة. أخذ الطّريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل. وكان من نفات القدر، واتّبع رأي الفلاسفة في نفي الصّفات الوجوديّة لظهور مذاهبهم يومئذ.
ثمّ جاء إبراهيم النظّام، وقال بالقدر، واتّبعوه. وطالع كتب الفلاسفة وشدّد في نفي الصّفات وقرّر قواعد الاعتزال. ثمّ جاء الجاحظ والكعبيّ والجبائيّ، وكانت طريقتهم تسمّى علم الكلام: إمّا لما فيها من الحجاج والجدال، وهو الّذي يسمّى كلاما، وإمّا أنّ أصل طريقتهم نفي صفة الكلام. فلهذا كان الشافعيّ يقول: حقّهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم. وقرّر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردّوا، إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعريّ وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح، فرفض طريقتهم، وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العبّاس القلانسيّ والحرث ابن أسد المحاسبيّ من أتباع
السلف وعلى طريقة السّنّة. فأيّد مقالاتهم بالحجج الكلاميّة وأثبت الصّفات لي قائمة بذات الله تعالى، من العلم والقدرة والإرادة الّتي يتم بها دليل التمانع وتصحّ المعجزات للأنبياء. وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسّمع والبصر لأنّها وإن أوهم ظاهرا النقص بالصوت والحرف الجسمانيّين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت، وهو ما يدور في الخلد. والكلام حقيقة فيه دون الأوّل، فأثبتوها للَّه تعالى وانتفى إيهام النقص. وأثبتوا هذه الصّفة قديمة عامّة التعلّق بشأن الصّفات الأخرى. وصار القرآن اسما مشتركا بين القديم بذات الله تعالى، وهو الكلام النفسيّ والمحدث الّذي هو الحروف المؤلّفة المقروءة بالأصوات. فإذا قيل قديم، فالمراد الأوّل، وإذا قيل مقروء، مسموع، فلدلالة القراءة والكتابة عليه. وتورّع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه، لأنّه لم يسمع من السّلف قبله: لا إنّه يقول أنّ المصاحف المكتوبة قديمة، ولا أنّ القراءة الجارية على السنّة قديمة، وهو شاهدها محدثة. وإنّما منعه من ذلك الورع الّذي كان عليه. وأمّا غير ذلك فإنكار للضروريّات، وحاشاه منه. وأمّا السّمع والبصر، وإن كان يوهم إدراك الجارحة، فهو يدلّ أيضا لغة على إدراك المسموع والبصر، وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنّه حقيقة لغويّة فيهما.
وأمّا لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك، فعدلوا عن حقائقها اللّغويّة لما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها، على طريقة العرب، حيث تتعذّر حقائق الألفاظ، فيرجعون إلى المجاز. كما في قوله تعالى:«يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ» وأمثاله، طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة.
وحملهم على هذا التأويل، وإن كان مخالفا لمذهب السّلف في التّفويض أنّ جماعة من أتباع السّلف وهم المحدّثون والمتأخّرون من الحنابلة ارتكبوا [1] في محمل هذه الصّفات فحملوها على صفات ثابتة للَّه تعالى، مجهولة الكيفيّة. فيقولون في
[1] كذا. ومقتضى سياق العبارة: ارتبكوا.
«اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ 7: 54» تثبت له استواء، بحيث مدلول اللّفظة، فرارا من تعطيله. ولا نقول بكيفيّته فرارا من القول بالتشبيه الّذي تنفيه آيات السلوب، من قوله «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11، سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ 23: 91، تعالى الله عما يقول الظالمون، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ 112: 3» ولا يعلمون مع ذلك أنّهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء، والاستواء عند أهل اللّغة إنّما موضوعة الاستقرار والتمكّن، وهو جسمانيّ. وأمّا التعطيل الّذي يشنّعون بإلزامه، وهو تعطيل اللّفظ، فلا محذور فيه. وإنّما المحذور في تعطيل الآلة. وكذلك يشنّعون بإلزام التكليف بما لا يطاق، وهو تمويه. لأنّ التشابه لم يقع في التكاليف. ثمّ يدّعون أنّ هذا مذهب السّلف، وحاشا للَّه من ذلك. وإنّما مذهب السّلف ما قرّرناه أوّلا من تفويض المراد بها إلى الله، والسكوت عن فهمها. وقد يحتجّون لإثبات الاستواء للَّه بقول مالك:«إنّ الاستواء معلوم الثبوت للَّه» وحاشاه من ذلك، لأنّه يعلم مدلول الاستواء. وإنّما أراد أنّ الاستواء معلوم من اللّغة، وهو الجسمانيّ، وكيفيّته أي حقيقته. لأنّ حقائق الصّفات كلّها كيفيّات، وهي مجهولة الثبوت للَّه.
وكذلك يحتجّون على إثبات المكان بحديث السوداء، وأنّها لمّا قال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم. أين الله؟ وقالت في السّماء، فقال أعتقها فإنّها مؤمنة. 53 قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان للَّه، بل لأنّها آمنت بما جاء به من ظواهر، أنّ الله في السّماء، فدخلت في جملة الراسخين الّذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه. والقطع بنفي المكان حاصل من دليل العقل النّافي للافتقار. ومن أدلّة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ 42: 11» وأشباهه. ومن قوله: «وَهُوَ الله في السَّماواتِ وَفي الْأَرْضِ 6: 3» ، إذ الموجود لا يكون في مكانين، فليست في هذا للمكان قطعا، والمراد غيره. ثمّ طردوا ذلك المحمل الّذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين، والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعمّ من الجسمانيّة وينزّهونه عن مدلول الجسمانيّ
منها. وهذا شيء لا يعرف في اللّغة. وقد درج على ذلك الأوّل والآخر منهم ونافرهم أهل السنّة من المتكلّمين الأشعريّة والحنفيّة. ورفضوا عقائدهم في ذلك، ووقع بين متكلّمي الحنفيّة ببخارى وبين الإمام محمّد بن إسماعيل البخاريّ ما هو معروف. وأمّا المجسّمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسميّة، وأنّها لا كالأجسام. ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيّات. وإنّما جرّأهم عليه إثبات هذه الظواهر، فلم يقتصروا عليه، بل توغّلوا وأثبتوا الجسميّة، يزعمون فيها مثل ذلك وينزّهونه بقول متناقض سفساف، وهو قولهم:«جسم لا كالأجسام» . والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التّفسير من أنّه القائم بالذات أو المركّب من الجواهر وغير ذلك، فاصطلاحات للمتكلّمين يريدون بها غير المدلول اللّغويّ. فلهذا كان المجسّمة أوغل في البدعة بل والكفر. حيث أثبتوا للَّه وصفا موهما يوهم النقص لم يرد في كلامه، ولا كلام نبيّه. فقد تبيّن لك الفرق بين مذاهب السّلف والمتكلّمين السنّية والمحدّثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسّمة بما أطلعناك عليه. وفي المحدّثين غلاة يسمّون المشبّه لتصريحهم بالتشبيه، حتّى إنّه يحكى عن بعضهم أنّه قال: اعفوني من اللّحية والفرج وسلوا عمّا بدا لكم من سواهما. وإن لم يتأوّل ذلك لهم، بأنّهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة، وحملها على ذلك المحمل الّذي لأئمّتهم، وإلّا فهو كفر صريح والعياذ باللَّه. وكتب أهل السنّة مشحونة بالحجاج على هذه البدع، وبسط الردّ عليهم بالأدلّة الصّحيحة. وإنّما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميّز به فصول المقالات وجملها. «والْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» .
وأمّا الظواهر الخفيّة الأدلّة والدّلالة، كالوحي والملائكة والرّوح والجنّ والبرزخ وأحوال القيامة والدجّال والفتن والشروط، وسائر ما هو متعذّر على الفهم أو مخالف للعادات، فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعريّة في تفاصيله، وهم
أهل السنّة، فلا تشابه، وإن قلنا فيه بالتشابه، فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول: اعلم أنّ العالم البشريّ أشرف العوالم من الموجودات، وأرفعها. وهو وإن اتّحدت حقيقة الإنسانيّة فيه فله أطوار يخالف كلّ واحد منها الآخر بأحوال تختصّ به حتّى كأنّ الحقائق فيها مختلفة.
فالطّور الأوّل: عالمه الجسمانيّ بحسّه الظاهر وفكره المعاشيّ وسائر تصرّفاته الّتي أعطاه إيّاها وجوده الحاضر.
الطّور الثاني: عالم النوم، وهو تصوّر الخيال بإنفاذ تصوّراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسّه الظاهرة مجرّدة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانيّة، ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه. ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقّب من مسرّاته الدنيويّة والأخرويّة، كما وعد به الصادق صلوات الله عليه.
وهذان الطوران عامّان في جميع أشخاص البشر، وهما مختلفان في المدارك كما تراه.
الطور الثالث: طور النبوّة، وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصّهم الله به من معرفته وتوحيده، وتنزّل ملائكته عليهم بوحيه، وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلّها مغايرة للأحوال البشريّة الظاهرة.
الطور الرابع: طور الموت الّذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمّى البرزخ يتنعّمون فيه ويعذّبون على حسب أعمالهم ثمّ يفضون إلى يوم القيامة الكبرى، وهي دار الجزاء الأكبر نعيما وعذابا في الجنّة أو في النار.
والطوران الأوّلان شاهدهما وجدانيّ، والطور الثالث النبويّ شاهده المعجزة والأحوال المختصّة بالأنبياء، والطور الرابع شاهده ما تنزّل على الأنبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة، مع أنّ العقل يقتضي به،
كما نبّهنا الله عليه، في كثير من آيات البعثة. ومن أوضح الدلالة على صحّتها أنّ أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقّى فيه أحوالا تليق به، لكان إيجاده الأوّل عبثا. إذ الموت إذا كان عدما كان مال الشخص إلى العدم، فلا يكون لوجوده الأوّل حكمة. والعبث على الحكيم محال.
وإذا تقرّرت هذه الأحوال الأربعة، فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافا بيّنا يكشف لك غور المتشابه. فأمّا مداركه في الطور الأوّل فواضحة جليّة. قال الله تعالى:«وَالله أَخْرَجَكُمْ من بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ 16: 78 [1] » . فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانيّة ويوفي حقّ العبادة المفضية به إلى النّجاة.
وأمّا مداركه في الطور الثاني، وهو طور النوم، فهي المدارك الّتي في الحسّ الظاهر بعينها. لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة. لكنّ الرأي يتيقّن كلّ شيء أدركه في نومه لا يشكّ فيه ولا يرتاب، مع خلوّ الجوارح عن الاستعمال العاديّ لها. والناس في حقيقة هذه الحال فريقان: الحكماء، ويزعمون أنّ الصور الخياليّة يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحسّ المشترك الّذي هو الفصل المشترك بين الحسّ الظاهر والحسّ الباطن، فتصوّر محسوسه بالظاهر في الحواسّ كلّها. ويشكّل عليهم هذا بأنّ المرائي الصادقة الّتي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخياليّة الشيطانيّة، مع أنّ الخيال فيها على ما قرّروه واحد.
الفريق الثاني: المتكلّمون، أجملوا فيها القول، وقالوا: هو إدراك يخلقه الله في الحاسّة فيقع كما يقع في اليقظة، وهذا أليق، وإن كنّا لا نتصوّر كيفيّته.
[1] آية 78 من سورة النحل.
وهذا الإدراك النوميّ أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسيّة في الأطوار.
وأمّا الطور الثالث، وهو طور الأنبياء، فالمدارك الحسيّة فيها مجهولة الكيفيّة عند وجدانيّته عندهم بأوضح من اليقين. فيرى النّبيّ الله والملائكة، ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة، ويرى الجنّة والنار، والعرش والكرسيّ، ويخترق السّماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها، ويلقى النّبيّين لك، ويصلّي بهم، ويدرك أنواع المدارك الحسيّة، كما يدرك في طوره الجسمانيّ والنوميّ، بعلم ضروريّ يخلقه الله له، لا بالإدراك العاديّ للبشر في الجوارح، ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النّبوّة على أمر النوم في دفع الخيال صورة إلى الحسّ المشترك. فإنّ الكلام عليهم هنا أشدّ من الكلام في النوم، لأنّ هذا التّنزيل طبيعة واحدة كما قرّرناه، فيكون على هذا حقيقة الوحي والرّؤيا من النّبيّ واحدة في يقينها وحقيقتها، وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النّبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ستة أشهر وأنّها كانت بمدّة الوحي ومقدّمته، ويشعر ذلك بأنّه رؤية [1] في الحقيقة. وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدّة كما هي في الصّحيح، حتّى كان القرآن يتنزّل عليه آيات مقطّعات. وبعد ذلك نزل عليه (براءة)[2] في غزوة (تبوك) جملة واحدة، وهو يسير على ناقته. فلو كان ذلك من تنزّل الفكر إلى الخيال فقط، ومن الخيال إلى الحسّ المشترك، لم يكن بين هذه الحالات فرق. وأمّا الطور الرابع، وهو طور الأموات في برزخهم الّذي أوّله القبر. وهم مجرّدون عن البدن، أو في بعثتهم عند ما يرجعون إلى الأجسام، فمداركهم الحسيّة موجودة، فيرى الميت في قبره المكان يسائلانه، ويرى مقعده من الجنّة أو النار بعيني رأسه،
[1] كذا. وفي نسخة: دونه.
[2]
هي السورة التاسعة من القرآن الكريم. وهي سورة (التوبة) .
ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه، ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين، وغير ذلك. وفي الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر [1] ، وفيه قتلى المشركين من قريش، وناداهم بأسمائهم، فقال عمر: يا رسول الله! أتكلّم هؤلاء الجيف؟
فقال صلى الله عليه وسلم: والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع منهم لما أقول. ثمّ في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم- كما كانوا يعاينون في الحياة- من نعيم الجنّة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه، ويرون الملائكة ويرون ربّهم، كما ورد في الصحيح: إنّكم ترون ربّكم يوم القيامة، كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته. وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدّنيا وهي حسيّة مثلها، وتقع في الجوارح بالعلم الضّروريّ الّذي يخلقه الله كما قلناه. وسرّ هذا أن تعلم أنّ النّفس الإنسانيّة هي تنشأ بالبدن وبمداركه، فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النّبيّ حالة الوحي من المدارك البشريّة إلى المدارك الملكيّة، فقد استصبحت ما كان معها من المدارك البشريّة مجرّدة عن الجوارح، فيدرك بها في ذلك الطور أيّ إدراك شاءت منها، أرفع من إدراكها، وهي في الجسد. قاله الغزاليّ رحمه الله، وزاد على ذلك أنّ النفس الإنسانيّة صورة تبقى لها، ب عد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالا لها، كان في البدن وصورا.
وأنا أقول: إنّما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك. فإذا تفطّنت لهذا كلّه علمت أنّ هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة، لكن ليس على ما كانت في الحياة الدّنيا، وإنّما هي تختلف بالقوّة والضّعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال. ويشير المتكلّمون إلى ذلك إشارة مجملة بأنّ الله يخلق فيها علما ضروريّا بتلك المدارك، أيّ
[1] كان ذلك أثر انتهاء وقعة بدر الكبرى التي أظهر الله بها دين الإسلام على المشركين. انظر ابن خلدون ط دار الكتاب اللبناني- بيروت م 2 ص 744- 746.