الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدر كثرة الشّيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلّم حتّى لقد يظنّ كثير منهم أنّها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلّا مباشرته لاختلاف الطّرق فيها من المعلّمين. فلقاء أهل العلوم وتعدّد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرّد العلم عنها ويعلم أنّها أنحاء تعليم وطرق توصل وتنهض قواه إلى الرّسوخ والاستحكام في المكان [1] وتصحّح معارفه وتميّزها [2] عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتّلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعدّدهم وتنوّعهم. وهذا لمن يسّر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرّحلة لا بدّ منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرّجال. وَالله يَهْدِي من يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ 2: 213.
الفصل الثاني والأربعون في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة ومذاهبها
والسّبب في ذلك أنّهم معتادون النّظر الفكريّ والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذّهن، أمورا كلّيّة عامّة ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادّة ولا شخص ولا جيل ولا أمّة ولا صنف من النّاس. ويطبّقون من بعد ذلك الكلّيّ على الخارجيّات. وأيضا يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهيّ. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذّهن ولا تصير إلى المطابقة إلّا بعد الفراغ من البحث والنّظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة وإنّما يتفرّع ما في الخارج عمّا في الذّهن من ذلك كالأحكام الشّرعيّة فإنّها فروع
[1] وفي نسخة أخرى: في الملكات.
[2]
وفي النسخة الباريسية: وتصحيح معارفها وتمييزها عن سواها.
عمّا في المحفوظ من أدلّة الكتاب والسّنّة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار [1] في العلوم العقليّة الّتي تطلب في صحّتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعوّدون في سائر أنظارهم الأمور الذّهنيّة والأنظار الفكريّة لا يعرفون سواها.
والسّياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنّها خفيّة. ولعلّ أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلّيّ الّذي يحاول تطبيقه عليها. ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلّهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السّياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا ولا يؤمن عليهم.
ويلحق بهم أهل الذّكاء والكيس من أهل العمران لأنّهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط. والعاميّ السّليم الطّبع المتوسّط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إيّاه يقتصر لكلّ مادّة على حكمها وفي كلّ صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختصّ به ولا يعدّي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره الموادّ المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسّابح لا يفارق البرّ عند الموج. قال الشّاعر:
فلا توغلنّ إذا ما سبحت
…
فإنّ السّلامة في السّاحل
فيكون مأمونا من النّظر في سياسته مستقيم النّظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاته ومضارّه باستقامة نظره. وفوق كلّ ذي علم عليم.
ومن هنا يتبيّن [2] أنّ صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنّها تنظر في المعقولات الثّواني. ولعلّ الموادّ فيها
[1] الأصح أن يقول كلمة النظر لأنه لا وجود لكلمة انظار في (لسان العرب) .
[2]
وفي النسخة الباريسية: تعلم.