الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقولون: هي كاتم سرّ، وفي موضع آخر يقولون: تدلّ على الحياة وأمثال ذلك.
فيحفظ المعبّر هذه القوانين الكلّيّة، ويعبّر في كلّ موضع بما تقتضيه القرائن الّتي تعيّن من هذه القوانين ما هو أليق بالرّؤيا. وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النّوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبّر بالخاصّيّة الّتي خلقت فيه وكلّ ميسّر لما خلق له. ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السّلف. وكان محمّد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتب عنه في ذلك القوانين وتناقلها النّاس لهذا العهد. وألّف الكرمانيّ فيه من بعده. ثمّ ألّف المتكلّمون المتأخّرون وأكثروا. والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيروانيّ من علماء القيروان مثل الممتّع وغيره وكتاب الإشارة للسّالميّ من أنفع الكتب فيه وأحضرها. وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس. وهو علم مضيء بنور النّبوة للمناسبة الّتي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصّحيح والله علّام الغيوب.
الفصل التاسع عشر في العلوم العقلية وأصنافها
وأمّا العلوم العقليّة الّتي هي طبيعيّة للإنسان من حيث إنّه ذو فكر فهي غير مختصّة بملّة بل بوجه النّظر [1] فيها إلى أهل الملل كلّهم ويستوون في مداركها ومباحثها. وهي موجودة في النّوع الإنسانيّ منذ كان عمران الخليقة. وتسمّى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم: الأوّل علم المنطق وهو علم يعصم الذّهن عن الخطإ في اقتناص المطالب المجهولة من الأمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطإ من الصّواب. فيما يلتمسه النّاظر في
[1] وفي نسخة أخرى: يوجد النظر.
(الموجودات وعوارضها)[1] ليقف على تحقيق الحقّ في الكائنات نفيا وثبوتا بمنتهى فكره. ثمّ النّظر بعد ذلك عندهم إمّا في المحسوسات من الأجسام العنصريّة والمكوّنة عنها من المعدن والنّبات والحيوان والأجسام الفلكيّة والحركات الطّبيعيّة. والنّفس الّتي تنبعث عنها الحركات وغير ذلك. ويسمّى هذا الفنّ بالعلم الطّبيعيّ وهو العلم الثّاني منها. وإمّا أن يكون النّظر في الأمور الّتي وراء الطّبيعة من الرّوحانيّات ويسمّونه العلم الإلهيّ وهو الثّالث منها. والعلم الرّابع وهو النّاظر في المقادير ويشتمل على أربعة علوم وتسمّى التّعاليم. أوّلها:
علم الهندسة وهو النّظر في المقادير على الإطلاق. إمّا المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتّصلة وهي إمّا ذو بعد واحد وهو الخطّ أو ذو بعدين وهو السّطح، أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التّعليميّ. ينظر في هذه المقادير وما يعرض لها إمّا من حيث ذاتها أو من حيث نسبة بعضها إلى بعض. وثانيها علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكمّ المنفصل الّذي هو العدد ويؤخذ له من الخواصّ والعوارض اللّاحقة. وثالثها علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنّغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد وثمرته معرفة تلاحين الغناء. ورابعها علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعدّدها لكلّ كوكب من السّيّارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السّماويّة المشاهدة الموجودة لكلّ واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها. فهذه أصول العلوم الفلسفيّة وهي سبعة: المنطق وهو المقدّم منها وبعده التّعاليم فالأرتماطيقي أوّلا ثمّ الهندسة ثمّ الهيئة ثمّ الموسيقى ثمّ الطّبيعيّات ثمّ الإلهيّات ولكلّ واحد منها فروع تتفرّع عنه. فمن فروع الطّبيعيّات الطّبّ ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحساب [2] حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك (ومن فروعها النّظر في
[1] وفي النسخة الباريسية: في التصورات والتصديقات الذاتية والعرضية.
[2]
وفي نسخة أخرى: حسبانات.
النّجوم على الأحكام النّجوميّة) [1] ونحن نتكلّم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها.
واعلم أنّ أكثر من عني بها في الأجيال الّذين عرفنا أخبارهم الأمّتان العظيمتان في الدّولة قبل الإسلام وهما فارس والرّوم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفورا فيهم والدّولة والسّلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم. وكان للكلدانيّين ومن قبلهم من السّريانيّين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسّحر والنّجامة وما يتبعها من الطّلاسم [2] وأخذ ذلك عنهم الأمم من فارس ويونان فاختصّ بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلوّ من خبر هاروت وماروت وشأن السّحرة وما نقله أهل العلم من شأن البراريّ [3] بصعيد مصر. ثمّ تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلّا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصّنائع. والله أعلم بصحّتها. مع أنّ سيوف الشّرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها. وأمّا الفرس فكان شأن هذه العلوم العقليّة عندهم عظيما ونطاقها متّسعا لما كانت عليه دولتهم من الضّخامة واتّصال الملك. ولقد يقال إنّ هذه العلوم إنّما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينيّة فاستولى على كتبهم وعلومهم. إلّا أنّ المسلمين لمّا افتتحوا بلاد فارس، وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ممّا لا يأخذه الحصر ولمّا فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة كتب سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ليستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين. فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء. فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا الله. فطرحوها في الماء أو في النّار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا. وأمّا الرّوم فكانت الدّولة منهم ليونان أوّلا وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل
[1] وفي نسخة أخرى: ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية.
[2]
وفي النسخة الباريسية: من التأثيرات والطلسمات.
[3]
وفي نسخة أخرى: البرابي.
أساطين الحكمة وغيرهم. واختصّ فيها المشّاءون منهم أصحاب الرّواق بطريقة حسنة في التّعليم كانوا يقرءون في رواق يظلّهم من الشّمس والبرد على ما زعموا.
واتّصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه بقراط الدّنّ، ثمّ إلى تلميذه أفلاطون ثمّ إلى تلميذه أرسطو ثمّ إلى تلميذه الإسكندر الأفرودسيّ، وتامسطيون وغيرهم. وكان أرسطو معلّما للإسكندر ملكهم الّذي غلب الفرس على ملكهم وانتزع الملك من أيديهم. وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيه صيتا وشهرة. وكان يسمّى المعلّم الأوّل فطار له في العالم ذكر.
ولمّا انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النّصرانيّة هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشّرائع فيها. وبقيت في صحفها ودواوينها مخلّدة باقية في خزائنهم ثمّ ملكوا الشّام وكتب هذه العلوم باقية فيهم. ثمّ جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظّهور الّذي لا كفاء له وابتزّوا الرّوم ملكهم فيما ابتزّوه للأمم. وابتدأ أمرهم بالسّذاجة والغفلة عن الصّنائع حتّى إذا تبحبح [1] من السّلطان والدّولة وأخذ الحضارة [2] بالحظّ الّذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفنّنوا في الصّنائع والعلوم. تشوّقوا إلى الاطّلاع على هذه العلوم الحكميّة بما سمعوا من الأساقفة والاقسّة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسمو إليه أفكار الإنسان فيها.
فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الرّوم أنّ يبعث إليه بكتب التّعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدس وبعض كتب الطّبيعيّات. فقرأها المسلمون واطّلعوا على ما فيها وازدادوا حرصا على الظّفر بما بقي منها. وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصا وأوفد الرّسل على ملوك الرّوم في استخراج علوم اليونانيّين وانتساخها بالخطّ العربيّ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب. وعكف عليها النّظّار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها. وخالفوا كثيرا من آراء المعلّم
[1] وفي النسخة الباريسية: انتجع.
[2]
وفي نسخة أخرى: وأخذوا من الحضارة.
الأوّل واختصّوه بالرّدّ والقبول لوقوف الشّهرة عنده. ودوّنوا في ذلك الدّواوين وأربوا على من تقدّمهم في هذه العلوم وكان من أكابرهم في الملّة أبو نصر الفارابيّ وأبو عليّ بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد بن رشد والوزير أبو بكر بن الصّائغ بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم. واختصّ هؤلاء بالشّهرة والذّكر واقتصر كثيرون على انتحال التّعاليم وما ينضاف إليها من علوم النّجامة والسّحر والطّلسمات. ووقفت الشّهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيّان من أهل المشرق ومسلمة بن أحمد المجريطيّ من أهل الأندلس وتلميذه. ودخل على الملّة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من النّاس بما جنحوا إليها وقلّدوا آراءها والذّنب في ذلك لمن ارتكبه. ولو شاء الله ما فعلوه. ثمّ إنّ المغرب والأندلس لمّا ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحلّ ذلك منهما إلّا قليلا من رسومه تجدها في تفاريق من النّاس وتحت رقبة من علماء السّنّة. ويبلغنا عن أهل المشرق أنّ بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصا في عراق العجم وما بعده فيما وراء النّهر وأنّهم على بحّ [1] من العلوم العقليّة لتوفّر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم. ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعدّدة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدّين التّفتازانيّ منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأنّ له ملكة راسخة في هذه العلوم. وفي أثنائها ما يدلّ على أنّ له اطّلاعا على العلوم الحكميّة وقدما عالية في سائر الفنون العقليّة والله يؤيّد بنصره من يشاء. كذلك بلغنا لهذا العهد أنّ هذه العلوم الفلسفيّة ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشّماليّة نافقة الأسواق وأنّ رسومها هناك متجدّدة ومجالس تعليمها متعدّدة ودواوينها جامعة متوفّرة وطلبتها متكثّرة [2] والله أعلم بما هنالك وهو يخلق ما يشاء ويختار.
[1] وفي النسخة الباريسية: على نهج. وفي نسخة أخرى: على ثبج.
[2]
وفي نسخة أخرى: ودواوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون.