الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انحلالها أيّام الطّوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حدير وبني برد وأمثالهم وكذا في الدّولة الّتي أدركناها لعهدنا سنّة الله الّتي قد خلت في عباده.
فصل:
ولما يتوقّعه أهل الدّولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرّتب والتّخلّص من ربقة السّلطان بما حصل في أيديهم من مال الدّولة إلى قطر آخر ويرون أنّه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم واعلم أنّ الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع فإنّ صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكّنه الرّعيّة من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبيّة المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأنّ ربقة الملك يعسر الخلاص منها ولا سيّما عند استفحال الدّولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتّخلّق بالشّرّ وأمّا إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السّلطان وحاشيته وأهل الرّتب في دولته فقلّ أن يخلّى بينه وبين ذلك.
أمّا أوّلا فلما يراه الملوك أنّ ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطّلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحلّ ربقته من الخدمة ضنّا بأسرارهم وأحوالهم أن يطّلع عليها أحد، وغيرة من خدمته لسواهم ولقد كان بنو أميّة بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السّفر لفريضة الحجّ لما يتوهّمونه من وقوعهم بأيدي بني العبّاس فلم يحجّ سائر أيّامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الحجّ لأهل الدّول من الأندلس إلّا بعد فراغ شأن الأمويّة ورجوعها إلى الطّوائف وأمّا ثانيا فلأنّهم وإن سمحوا بحلّ ربقته فلا يسمحون بالتّجافي عن ذلك المال لما يرون أنّه جزء من مالهم كما يرون أنّه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلّا بها وفي ظلّ جاهها، فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدّولة ينتفعون به ثمّ إذا توهّمنا أنّه خلّص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النّادر الأقلّ فتمتدّ إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتّخويف تعريضا أو
بالقهر ظاهرا لما يرون أنّه مال الجباية والدّول وأنّه مستحقّ للإنفاق في المصالح وإذا كانت أعينهم تمتدّ إلى أهل الثّروة واليسار المتكسّبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتدّ إلى أموال الجباية والدّول الّتي تجد السّبيل إليه بالشّرع والعادة ولقد حاول السّلطان أبو يحيى زكريّا بن أحمد اللّحيانيّ تاسع أو عاشر ملوك الحفصيّين بإفريقة الخروج عن عهدة الملك واللّحاق بمصر فرارا من طلب صاحب الثّغور الغربيّة لمّا استجمع لغزو تونس فاستعمل اللّحيانيّ الرّحلة إلى ثغر طرابلس يورّي بتمهيده وركب السّفين من هنالك وخلص إلى الإسكندريّة بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصّامت [1] والذّخيرة وباع كلّ ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجوهر حتّى الكتب واحتمل ذلك كلّه إلى مصر ونزل على الملك النّاصر محمّد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثّامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئا فشيئا بالتّعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللّحيانيّ إلّا في جرابته الّتي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الّذي يعتري أهل الدّول لما يتوقّعونه من ملوكهم من المعاطب وإنّما يخلصون إن اتّفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهّمونه من الحاجة فغلط ووهم والّذي حصل لهم من الشّهرة بخدمة الدّول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السّلطانيّة أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التّجارة والفلاحة والدّول أنساب لكن:
النّفس راغبة إذا رغّبتها
…
وإذا تردّ إلى قليل تقنع
والله سبحانه هو الرّزّاق وهو الموفّق بمنّه وفضله والله أعلم.
[1] الأموال النقدية.