الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون يساره إلّا بمقدار ماله وعلى نسبة سعيه وهؤلاء هم أكثر التّجّار. ولهذا تجد أهل الجاه منهم يكونون أيسر بكثير. وممّا يشهد لذلك أنّا نجد كثيرا من الفقهاء وأهل الدّين والعبادة إذا اشتهروا حسن الظّنّ بهم واعتقد الجمهور معاملة الله في إرفادهم فأخلص النّاس في إعانتهم على أحوال دنياهم والاعتمال في مصالحهم وأسرعت إليهم الثّروة وأصبحوا مياسير من غير مال مقتنى إلّا ما يحصل لهم من قيم الأعمال الّتي وقعت المعونة بها من النّاس لهم. رأينا من ذلك أعدادا في الأمصار والمدن. وفي البدو يسعى لهم النّاس في الفلح والتّجر وكلّ هو قاعد بمنزله لا يبرح من مكانه فينمو ماله ويعظم كسبه ويتأثّل الغنيّ من غير سعي ويعجب من لا يفطن لهذا السّرّ في حال ثروته وأسباب غناه ويساره والله سبحانه وتعالى يرزق من يشاء بغير حساب.
الفصل السادس في أن السعادة والكسب إنما يحصل غالبا لأهل الخضوع والتملق وان هذا الخلق من أسباب السعادة
قد سلف لنا فيما سبق أنّ الكسب الّذي يستفيده البشر إنّما هو قيم أعمالهم ولو قدّر أحد عطل [1] عن العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلّيّة. وعلى قدر عمله وشرفه بين الأعمال وحاجة النّاس إليه يكون قدر قيمته. وعلى نسبة ذلك نموّ كسبه أو نقصانه. وقد بيّنا آنفا أنّ الجاه يفيد المال لما يحصل لصاحبه من تقرّب النّاس إليه بأعمالهم وأموالهم في دفع المضارّ وجلب المنافع. وكان ما يتقرّبون به من عمل أو مال عوضا عمّا يحصلون عليه بسبب الجاه من الأغراض [2] في صالح أو طالح. وتصير تلك الأعمال في كسبه وقيمها أموال وثروة له فيستفيد الغنى واليسار لأقرب وقت. ثمّ إنّ الجاه متوزّع في النّاس ومترتّب فيهم طبقة بعد طبقة
[1] وفي النسخة الباريسية: عاطل.
[2]
وفي النسخة الباريسية: من كثير الاعراض.
ينتهي في العلوّ إلى الملوك الّذين ليس فوقهم يد عالية [1] وفي السّفل إلى من لا يملك ضرّا ولا نفعا بين أبناء جنسه وبين ذلك طبقات متعدّدة حكمة الله في خلقه بما ينتظم معاشهم وتتيسّر مصالحهم ويتمّ بقاؤهم لأنّ النّوع الإنسانيّ لا يتمّ وجوده وبقاؤه إلّا بالتّعاون بين أبنائه على مصالحهم، لأنّه قد تقرّر أنّ الواحد منهم لا يتمّ وجوده وإنّه وإن ندر ذلك في صورة مفروضة لا يصحّ بقاؤه.
ثمّ إنّ هذا التّعاون لا يحصل إلّا بالإكراه عليه لجهلهم في الأكثر بمصالح النّوع ولما جعل لهم من الاختيار وأنّ أفعالهم إنّما تصدر بالفكر والرّويّة لا بالطّبع.
وقد يمتنع من المعاونة فيتعيّن حمله عليها فلا بدّ من حامل يكره أبناء النّوع على مصالحهم لتتمّ الحكمة الإلهيّة في بقاء هذا النّوع. وهذا معنى قوله تعالى «وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ 43: 32» فقد تبيّن أنّ الجاه هو القدرة الحاملة للبشر على التّصرّف في من تحت أيديهم من أبناء جنسهم بالإذن والمنع والتّسلّط بالقهر والغلبة ليحملهم على دفع مضارّهم وجلب منافعهم في العدل بأحكام الشرائع والسّياسة وعلى أغراضه فيما سوى ذلك ولكنّ الأوّل مقصود في العناية الرّبّانيّة بالذّات والثّاني داخل فيها بالعرض كسائر الشّرور الدّاخلة في القضاء الإلهيّ، لأنّه قد لا يتمّ وجود الخير الكثير إلّا بوجود شرّ يسير من أجل الموادّ فلا يفوت الخير بذلك بل يقع على ما ينطوي عليه من الشّرّ اليسير. وهذا معنى وقوع الظّلم في الخليقة فتفهّم. ثمّ إنّ كلّ طبقة من طباق [2] أهل العمران من مدينة أو إقليم لها قدرة على من دونها من الطّباق وكلّ واحدة من الطّبقة السّفلى يستمدّ بذي الجاه من أهل الطّبقة الّتي فوقه ويزداد كسبه تصرّفا فيمن تحت يده على قدر ما يستفيد منه والجاه على ذلك داخل على النّاس في جميع أبواب المعاش ويتّسع ويضيق بحسب الطّبقة والطّور
[1] وفي النسخة الباريسية: غالبة.
[2]
ورد في لسان العرب: «السماوات طباق بعضها على بعض. وكل واحد من الطباق طبقة. والطبق والطبقة: الفقرة حيث كانت. قيل: هي ما بين الفقرتين وجمعها طباق.
الّذي فيه صاحبه. فإن كان الجاه متّسعا كان الكسب النّاشئ عنه كذلك وإن كان ضيّقا قليلا فمثله. وفاقد الجاه وإن كان له مال فلا يكون يساره إلّا بمقدار عمله أو ماله ونسبة سعيه ذاهبا وآئبا في تنميته كأكثر التّجّار وأهل الفلاحة في الغالب وأهل الصّنائع كذلك إذا فقدوا الجاه واقتصروا على فوائد صنائعهم فإنّهم يصيرون إلى الفقر والخصاصة في الأكثر ولا تسرع إليهم ثروة وإنّما يرمّقون العيش ترميقا ويدافعون [1] ضرورة الفقر مدافعة. وإذا تقرّر ذلك وأنّ الجاه متفرّع [2] وأنّ السّعادة والخير مقترنان بحصوله علمت أنّ بذله وإفادته من أعظم النّعم وأجلّها وأنّ باذله من أجلّ المنعمين وإنّما يبذله لمن تحت يديه فيكون بذله بيد عالية وعزّة فيحتاج طالبه ومبتغيه إلى خضوع وتملّق كما يسأل أهل العزّ والملوك وإلّا فيتعذّر حصوله. فلذلك قلنا إنّ الخضوع والتّملق من أسباب حصول هذا الجاه المحصّل للسّعادة والكسب وإنّ أكثر أهل الثّروة والسّعادة بهذا التّملّق ولهذا نجد الكثير ممّن يتخلّق بالتّرفّع والشّمم لا يحصل لهم غرض الجاه فيقتصرون في التّكسّب على أعمالهم ويصيرون إلى الفقر والخصاصة. واعلم أنّ هذا الكبر والتّرفّع من الأخلاق المذمومة إنّما يحصل من توهّم الكمال وأنّ النّاس يحتاجون إلى بضاعته من علم أو صناعة كالعالم المتبحّر في علمه والكاتب المجيد في كتابته أو الشّاعر البليغ في شعره وكلّ محسن في صناعته يتوهّم أنّ النّاس محتاجون لما بيده فيحدث له ترفّع عليهم بذلك وكذا يتوهّم أهل الأنساب ممّن كان في آبائه ملك أو عالم مشهور أو كامل في طور يعبّرون [3] به بما رأوه أو سمعوه من رجال آبائهم في المدينة ويتوهّمون أنّهم استحقّوا مثل ذلك بقرابتهم إليهم ووراثتهم عنهم. فهم متمسّكون في الحاضر بالأمر المعدوم وكذلك أهل الحيلة والبصر والتّجارب بالأمور [4] قد يتوهّم بعضهم كمالا في نفسه بذلك واحتياجا إليه. وتجد هؤلاء
[1] وفي نسخة أخرى: يدفعون.
[2]
وفي النسخة الباريسية: متوزع.
[3]
وفي النسخة الباريسية: يغترون. وفي نسخة أخرى يعثرون
[4]
وفي النسخة الباريسية: أهل الحنكة والتجارب والبصر بالأمور.
الأصناف كلّهم مترفّعين لا يخضعون لصاحب الجاه ولا يتملّقون لمن هو أعلى منهم ويستصغرون من سواهم لاعتقادهم الفضل على النّاس فيستنكف أحدهم عن الخضوع ولو كان للملك ويعدّه مذلّة وهوانا وسفها. ويحاسب النّاس في معاملتهم إيّاه بمقدار ما يتوهّم في نفسه ويحقد على من قصّر له في شيء ممّا يتوهّمه من ذلك. وربّما يدخل على نفسه الهموم والأحزان من تقصيرهم فيه ويستمرّ في عناء عظيم من إيجاب الحقّ لنفسه أو إباية النّاس له من ذلك. ويحصل له المقت من النّاس لما في طباع البشر من التّألّه، وقلّ أن يسلّم أحد منهم لأحد في الكمال والتّرفّع عليه إلّا أن يكون ذلك بنوع من القهر والغلبة والاستطالة. وهذا كلّه في ضمن الجاه. فإذا فقد صاحب هذا الخلق الجاه وهو مفقود له كما تبيّن لك مقته النّاس بهذا التّرفّع ولم يحصل له حظّ من إحسانهم وفقد الجاه لذلك من أهل الطّبقة الّتي هي أعلى منه لأجل المقت وما يحصل له بذلك من القعود عن تعاهدهم وغشيان [1] منازلهم ففسد معاشه وبقي في خصاصة وفقر أو فوق ذلك بقليل. وأمّا الثّروة فلا تحصل له أصلا. ومن هذا اشتهر بين النّاس أنّ الكامل في المعرفة محروم من الحظّ وأنّه قد حوسب بما رزق من المعرفة واقتطع له ذلك من الحظّ وهذا معناه. ومن خلق لشيء يسّر له. والله المقدّر لا ربّ سواه. ولقد يقع في الدّول أضراب في المراتب من أهل [2] الخلق ويرتفع فيها كثير من السّلفة وينزل كثير من العلية بسبب ذلك وذلك أنّ الدّول إذا بلغت نهايتها [3] من التّغلّب والاستيلاء انفرد منها منبت الملك بملكهم وسلطانهم ويئس من سواهم من ذلك وإنّما صاروا في مراتب دون مرتبة الملك وتحت يد السّلطان وكأنّهم خول له. فإذا استمرّت الدّولة وشمخ الملك تساوى حينئذ في المنزلة عند السّلطان كلّ من انتمى إلى خدمته وتقرّب إليه بنصيحة واصطنعه السّلطان لغنائه في كثير من مهمّاته.
[1] غشي المكان: أتاه.
[2]
وفي النسخة الباريسية: من أجل.
[3]
وفي النسخة الباريسية: غايتها.