الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تلاميذ الشّلوبين واستبحر في علم اللّسان وجاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميّين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليّين؟ ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثمّ قال لي: والله ما أدري، فقلت: أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك ولعلّه السّبب فيه. وذكرت له هذا الّذي كتبت فسكت معجبا ثمّ قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقّه أن يكتب بالذّهب. وكان من بعدها يؤثر محلّي ويصيخ في مجالس التّعليم إلى قولي ويشهد لي بالنّباهة في العلوم، والله خلق الإنسان وعلّمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون في بيان المطبوع من الكلام والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوره
اعلم أنّ الكلام الّذي هو العبارة والخطاب، إنّما سرّه وروحه في إفادة المعنى. وأمّا إذا كان مهملا فهو كالموات الّذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدّها عند أهل البيان لأنّهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشّروط والأحكام الّتي بها تطابق التراكيب اللّفظيّة مقتضى الحال، هو فنّ البلاغة. وتلك الشّروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام هي جلّ قوانين العربيّة. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفنّ، يسمّونه علم المعاني من فنون
البلاغة. فتندرج قوانين العربيّة لذلك في قوانين علم المعاني لأنّ إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصّر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الّذي هو في عداد الموات.
ثمّ يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأنّ التركيب يدلّ بالوضع على معنى، ثمّ ينتقل الذّهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازا: إمّا باستعارة أو كناية كما هو مقرّر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذّة كما تحصل في الإفادة وأشدّ. لأنّ في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظّفر من أسباب اللّذّة كما علمت. ثمّ لهذه الانتقالات أيضا شروط وأحكام كالقوانين صيّروها صناعة، وسمّوها بالبيان.
وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنّها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة. واللّفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصّر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربيا، لأنّ العربيّ هو الّذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربيّ وسجيّته وروحه وطبيعته.
ثمّ اعلم أنّهم إذا قالوا: «الكلام المطبوع» فإنّهم يعنون به الكلام الّذي كملت طبيعته وسجيّته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنّه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلّم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامّة، ويدلّ به عليه دلالة وثيقة. ثمّ يتبع تراكيب الكلام في هذه السجيّة الّتي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنّها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه
بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللّفظ المشترك عن الخفيّ من معانيه، والمطابقة بين المتضادّات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، فيحصل للكلام رونق ولذّة في الأسماع وحلاوة وجمال كلّها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعدّدة مثل: «وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى 92: 1- 2» ، ومثل:«فَأَمَّا من أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى 92: 5- 6» ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا:«فَأَمَّا من طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا 79: 37- 38» إلى آخر الآية. وكذا: «هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً 18: 104» . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهليّة منه، لكن عفوا من غير قصد ولا تعمّد. ويقال إنّه وقع في شعر زهير.
وأمّا الإسلاميّون فوقع لهم عفوا وقصدا، وأتوا منه بالعجائب. وأوّل من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتريّ ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولّعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل انّ أوّل من ذهب إلى معاناتها بشّار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يستشهد بشعره في اللّسان العربيّ. ثمّ اتّبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميريّ ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثارهم حبيب والبحتريّ. ثمّ ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصّناعة أجمع. ولنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصّناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلّني
…
أحدّث عنك النّفس في السرّ خاليا
وقول كثيّر:
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما
…
تخلّيت عما بيننا وتخلّت
لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّها
…
تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت
فتأمّل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا.
وأمّا المصنوع فكثير من لدن بشّار، ثمّ حبيب وطبقتهما، ثمّ ابن المعتزّ خاتم الصنعة الّذي جرى المتأخّرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم.
وقد تعدّدت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها.
وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنّها غير داخلة في الإفادة، وأنّها هي تعطي التحسين والرّونق. وأمّا المتقدّمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبيّة الّتي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا، منها أن تقع من غير تكلّف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأمّا العفو فلا كلام فيه لأنّها إذا برئت من التكلّف سلم الكلام من عيب الاستهجان، لأنّ تكلّفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصليّة للكلام، فتخلّ بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأسا. ولا يبقى في الكلام إلّا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر. وأصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدّون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقيّ، وكان من أهل البصر في اللّسان والقريحة في ذوقه يقول: إنّ من أشهى ما تقترحه عليّ نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشدّ العقوبة، ونودي عليه، يحذّر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلّفون بها، ويتناسون البلاغة. ثمّ من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السّبتيّ منفق اللّسان العربيّ بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعيّة إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنّها من