الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والخمسون في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر
اعلم أنّ لسان العرب وكلامهم على فنّين في الشّعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفّى ومعناه الّذي تكون أوزانه كلّها على رويّ واحد وهو القافية. وفي النّثر وهو الكلام غير الموزون وكلّ واحد من الفنّين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأمّا الشّعر فمنه المدح والهجاء والرّثاء وأمّا النّثر فمنه السّجع الّذي يؤتى به قطعا ويلتزم في كلّ كلمتين منه قافية واحدة يسمّى سجعا ومنه المرسل وهو الّذي يطلق فيه الكلام إطلاقا ولا يقطّع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدّعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.
وأمّا القرآن وإن كان من المنثور إلّا أنّه خارج عن الوصفين وليس يسمّى مرسلا مطلقا ولا مسجّعا. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذّوق بانتهاء الكلام عندها. ثمّ يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها ويثنّى من غير التزام حرف يكون سجعا ولا قافية وهو معنى قوله تعالى: «الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ 39: 23» . وقال: «قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ 6: 97» . ويسمّى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا ولا التزم فيها ما يلتزم في السّجع ولا هي أيضا قواف. وأطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلّها على العموم لما ذكرناه واختصّت بأمّ القرآن للغلبة فيها كالنّجم للثّريّا ولهذا سمّيت السّبع المثاني. وانظر هذا مع ما قاله المفسّرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحقّ برجحان ما قلناه. واعلم أنّ لكلّ واحد من هذه الفنون أساليب تختصّ به عند أهله ولا تصلح للفنّ الآخر ولا تستعمل فيه مثل النّسيب المختصّ بالشّعر والحمد والدّعاء المختصّ بالخطب والدّعاء المختصّ بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخّرون أساليب الشّعر وموازينه في المنثور من كثرة
الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه ولم يفترقا إلّا في الوزن. واستمرّ المتأخّرون من الكتّاب على هذه الطّريقة واستعملوها في المخاطبات السّلطانيّة وقصروا الاستعمال في المنثور كلّه على هذا الفنّ الّذي ارتضوه وخلطوا الأساليب فيه وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصا أهل المشرق. وصارت المخاطبات السّلطانيّة لهذا العهد عند الكتّاب الغفّل جارية على هذا الأسلوب الّذي أشرنا إليه وهو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب والمخاطب. وهذا الفنّ المنثور المقفّى أدخل المتأخّرون فيه أساليب الشّعر فوجب أن تنزّه المخاطبات السّلطانيّة عنه إذ أساليب الشّعر تنافيها اللّوذعيّة وخلط الجدّ بالهزل والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التّشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب. والتزام التّقفية أيضا من اللّوذعة والتّزيين وجلال الملك والسّلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالتّرغيب والتّرهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السّلطانيّة التّرسّل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلّا في الأقل النّادر. وحيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلّف له ثمّ إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فإنّ المقامات مختلفة ولكلّ مقام أسلوب يخصّه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية واستعارة. وأمّا إجراء المخاطبات السّلطانيّة على هذا النّحو الّذي هو على أساليب الشّعر فمذموم وما حمل عليه أهل العصر إلّا استيلاء العجمة على ألسنتهم وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقّه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوبه [1] . وولعوا بهذا المسجّع يلفّقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع
[1] وفي نسخة أخرى: خطوته.