الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النّظر العقليّ في جلب المصالح الدّنيويّة ودفع المضارّ والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النّظر الشّرعي في مصالحهم الأخرويّة والدّنيويّة الرّاجعة إليها إذ أحوال الدّنيا ترجع كلّها عند الشّارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشّرع في حراسة الدّين وسياسة الدّنيا به فافهم ذلك واعتبره فيما نورده عليك من بعد والله الحكيم العليم.
الفصل السادس والعشرون في اختلاف الأمة في حكم هذا المنصب وشروطه
وإذ قد بيّنّا حقيقة هذا المنصب وأنّه نيابة عن صاحب الشّريعة في حفظ الدّين وسياسة الدّنيا به تسمّى خلافة وإمامة والقائم به خليفة وإماما فأمّا تسميته إماما فتشبيها بإمام الصّلاة في اتّباعه والاقتداء به ولهذا يقال الإمامة الكبرى وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النّبيّ في أمّته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله واختلف في تسميته خليفة الله فأجازه بعضهم اقتباسا من الخلافة العامّة الّتي للآدميّين في قوله تعالى «إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً 2: 30» وقوله «جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ 6: 165» .
ومنع الجمهور منه لأنّ معنى الآية ليس عليه وقد نهى أبو بكر عنه لمّا دعي به وقال: «لست خليفة الله ولكنّي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولأنّ الاستخلاف إنّما هو في حقّ الغائب وأمّا الحاضر فلا. ثمّ إنّ نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشّرع بإجماع الصّحابة والتّابعين لأنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النّظر إليه في أمورهم وكذا في كلّ عصر من بعد ذلك ولم تترك النّاس فوضى في عصر من الأعصار واستقرّ ذلك
إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام. وقد ذهب بعض النّاس إلى أنّ مدرك وجوبه العقل، وأنّ الإجماع الّذي وقع إنّما هو قضاء بحكم العقل فيه.
قالوا وإنّما وجب بالعقل لضرورة الاجتماع للبشر واستحالة حياتهم ووجودهم منفردين ومن ضرورة الاجتماع التّنازع لازدحام الأغراض. فما لم يكن الحاكم الوازع أفضى ذلك إلى الهرج المؤذن بهلاك البشر وانقطاعهم مع أنّ حفظ النّوع من مقاصد الشّرع الضّروريّة وهذا المعنى بعينه هو الّذي لحظه الحكماء في وجوب النّبوءات في البشر وقد نبّهنا على فساده وأنّ إحدى مقدّماته أنّ الوازع إنّما يكون بشرع من الله تسلّم له الكافّة تسليم إيمان واعتقاد وهو غير مسلّم لأنّ الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشّوكة ولو لم يكن شرع كما في أمم المجوس وغيرهم ممّن ليس له كتاب أو لم تبلغه الدّعوة أو نقول يكفي في رفع التّنازع معرفة كلّ واحد بتحريم الظّلم عليه بحكم العقل فادّعاؤهم أنّ ارتفاع التّنازع إنّما يكون بوجود الشّرع هناك ونصب الإمام هنا غير صحيح بل كما يكون بنصب الإمام يكون بوجود الرّؤساء أهل الشّوكة أو بامتناع النّاس عن التّنازع والتّظالم فلا ينهض دليلهم العقليّ المبنيّ على هذه المقدّمة فدلّ على أنّ مدرك وجوبه إنّما هو بالشّرع وهو الإجماع الّذي قدّمناه.
وقد شذّ بعض النّاس فقال بعدم وجوب هذا النّصب رأسا لا بالعقل ولا بالشّرع منهم الأصمّ من المعتزلة وبعض الخوارج وغيرهم، والواجب عند هؤلاء إنّما هو إمضاء الحكم الشّرع فإذا تواطأت الأمّة على العدل وتنفيذ أحكام الله تعالى لم يحتج إلى إمام ولا يجب نصبه وهؤلاء محجوجون بالإجماع. والّذي حملهم على هذا المذهب إنّما هو الفرار عن الملك ومذاهبه من الاستطالة والتّغلّب والاستمتاع بالدّنيا لمّا رأوا الشّريعة ممتلئة بذمّ ذلك والنّعي على أهله ومرغّبة في رفضه. واعلم أنّ الشّرع لم يذمّ الملك لذاته ولا حظر القيام به وإنّما ذمّ المفاسد النّاشئة عنه من القهر والظّلم والتّمتّع باللّذات ولا شكّ أنّ في هذه مفاسد محظورة
وهي من توابعه كما أثنى على العدل والنّصفة وإقامة مراسم الدّين والذّبّ عنه وأوجب بإزائها الثّواب وهي كلّها من توابع الملك.
فإذا إنّما وقع الذّمّ للملك على صفة وحال دون حال أخرى ولم يذمّه لذاته ولا طلب تركه كما ذمّ الشّهوة والغضب من المكلّفين وليس مراده تركهما بالكلّيّة لدعاية الضّرورة إليها وأمّا المراد تصريفهما على مقتضى الحقّ وقد كان لداود وسليمان صلوات الله وسلامه عليهما الملك الّذي لم يكن لغيرهما وهما من أنبياء الله تعالى وأكرم الخلق عنده ثمّ نقول لهم إنّ هذا الفرار عن الملك بعدم وجوب هذا النّصب [1] لا يغنيكم شيئا لأنّكم موافقون على وجوب إقامة أحكام الشّريعة وذلك لا يحصل إلّا بالعصبيّة والشّوكة والعصبيّة مقتضية بطبعها للملك فيحصل الملك وإن لم ينصّب إمام وهو عين ما قرّرتم عنه. وإذا تقرّر أنّ هذا النّصب واجب بإجماع فهو من فروض الكفاية وراجع إلى اختيار أهل العقد والحلّ فيتعيّن عليهم نصبه ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى «أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ 4: 59» .
وأمّا شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواسّ والأعضاء ممّا يؤثّر في الرّأي والعمل واختلف في شرط خامس وهو النّسب القرشيّ فأمّا اشتراط العلم فظاهر لأنّه إنّما يكون منفّذا لأحكام الله تعالى إذا كان عالما بها وما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها ولا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا لأنّ التّقليد نقص والإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف والأحوال وأمّا العدالة فلأنّه منصب دينيّ ينظر في سائر المناصب الّتي هي شرط فيها فكان أولى باشتراطها فيه.
ولا خلاف في انتفاء العدالة فيه بفسق الجوارح من ارتكاب المحظورات وأمثالها وفي انتفائها بالبدع الاعتقاديّة خلاف.
[1] أي نصب الامام.
وأمّا الكفاية فهو أن يكون جريئا على إقامة الحدود واقتحام الحروب بصيرا بها كفيلا يحمل النّاس عليها عارفا بالعصبيّة وأحوال الدّهاء قويّا على معاناة السّياسة ليصحّ له بذلك ما جعل إليه من حماية الدّين وجهاد العدوّ وإقامة الأحكام وتدبير المصالح.
وأمّا سلامة الحواسّ والأعضاء من النّقص والعطلة [1] كالجنون والعمى والصّمم والخرس وما يؤثّر فقده من الأعضاء في العمل كفقد اليدين والرّجلين والأنثيين فتشترط السّلامة منها كلّها لتأثير ذلك في تمام عمله وقيامه بما جعل إليه وإن كان إنّما يشين في المنظر فقط كفقد إحدى هذه الأعضاء فشرط السّلامة منه شرط كمال ويلحق بفقدان الأعضاء المنع من التّصرّف وهو ضربان ضرب يلحق بهذه في اشتراط السّلامة منه شرط وجوب وهو القهر والعجز عن التّصرّف جملة بالأسر وشبهه وضرب لا يلحق بهذه وهو الحجر باستيلاء بعض أعوانه عليه من غير عصيان ولا مشاقّة فينتقل النّظر في حال هذا المستولي فإن جرى على حكم الدّين والعدل وحميد السّياسة جاز قراره وإلّا استنصر المسلمون بمن يقبض يده عن ذلك ويدفع علّته حتّى ينفّذ فعل الخليفة.
وأمّا النّسب القرشيّ فلإجماع الصّحابة يوم السّقيفة على ذلك واحتجّت قريش على الأنصار لمّا همّوا يومئذ ببيعة سعد بن عبّادة وقالوا «منّا أمير ومنكم أمير» بقوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمّة من قريش» وبأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أوصانا بأن نحسن إلى محسنكم ونتجاوز عن مسيئكم ولو كانت الإمارة فيكم لم تكن الوصيّة بكم فحجّوا الأنصار ورجعوا عن قولهم «منّا أمير ومنكم أمير» وعدلوا عمّا كانوا همّوا به من بيعة سعد لذلك. وثبت أيضا في الصّحيح «لا يزال هذا الأمر في هذا الحيّ من قريش» وأمثال هذه الأدلّة كثيرة إلّا أنّه لمّا ضعف أمر قريش وتلاشت
[1] تعطل الرجل إذا بقي لا عمل له والاسم العطلة وفلان ذو عطلة إذا لم تكن له صنعة يمارسها (لسان العرب) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى فقد الحواس أو تعطيلها.
عصبيّتهم بما نالهم من التّرف والنّعيم وبما أنفقتهم الدّولة في سائر أقطار الأرض عجزوا بذلك عن حمل الخلافة وتغلّبت عليهم الأعاجم وصار الحلّ والعقد لهم فاشتبه ذلك على كثير من المحقّقين حتّى ذهبوا إلى نفي اشتراط القرشيّة وعوّلوا على ظواهر في ذلك، مثل قوله صلى الله عليه وسلم «اسمعوا وأطيعوا وإن ولّي عليكم عبد حبشيّ ذو زبيبة» وهذا لا تقوم به حجّة في ذلك فإنّه خرج مخرج التّمثيل والغرض للمبالغة في إيجاب السّمع والطّاعة ومثل قول عمر «لو كان سالم مولى حذيفة حيّا لولّيته أو لما دخلتني فيه الظّنّة» وهو أيضا لا يفيد ذلك لما علمت أنّ مذهب الصّحابيّ ليس بحجّة وأيضا فمولى القوم منهم وعصبيّة الولاء حاصلة لسالم في قريش وهي الفائدة في اشتراط النّسب ولمّا استعظم عمر أمر الخلافة ورأى شروطها كأنّها مفقودة في ظنّه عدل إلى سالم لتوفّر شروط الخلافة عنده فيه حتّى من النّسب المفيد للعصبيّة كما نذكر ولم يبق إلّا صراحة النّسب فرآه غير محتاج إليه إذ الفائدة في النّسب إنّما هي العصبيّة وهي حاصلة من الولاء فكان ذلك حرصا من عمر رضي الله عنه على النّظر للمسلمين وتقليد أمرهم لمن لا تلحقه فيه لائمة ولا عليه فيه عهدة.
ومن القائلين بنفي اشتراط القرشيّة القاضي أبو بكر الباقلانيّ لمّا أدرك عليه عصبيّة قريش من التّلاشي والاضمحلال واستبداد ملوك العجم من الخلفاء فأسقط شرط القرشيّة وإن كان موافقا لرأي الخوارج لما رأى عليه حال الخلفاء لعهده وبقي الجمهور على القول باشتراطها وصحّة الإمامة للقرشيّ ولو كان عاجزا عن القيام بأمور المسلمين وردّ عليهم سقوط شرط الكفاية الّتي يقوى بها على أمره لأنّه إذا ذهبت الشّوكة بذهاب العصبيّة فقد ذهبت الكفاية وإذا وقع الإخلال بشرط الكفاية تطرّق ذلك أيضا إلى العلم والدّين وسقط اعتبار شروط هذا المنصب وهو خلاف الاجتماع.
ولنتكلّم الآن في حكمة اشتراط النّسب ليتحقّق به الصّواب في هذه المذاهب
فنقول: إنّ الأحكام الشّرعيّة كلّها لا بدّ لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها وتشرع لأجلها ونحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النّسب القرشيّ ومقصد الشّارع منه لم يقتصر فيه على التبرّك بوصلة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتّبرّك بها حاصلا لكنّ التّبرّك ليس من المقاصد الشّرعيّة كما علمت فلا بدّ إذن من المصلحة في اشتراط النّسب وهي المقصودة من مشروعيّتها وإذا سبرنا وقسمنا لم نجدها إلّا اعتبار العصبيّة الّتي تكون بها الحماية والمطالبة ويرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب فتسكن إليه الملّة وأهلها وينتظم حبل الألفة فيها وذلك أنّ قريشا كانوا عصبة مضر وأصلهم وأهل الغلب منهم وكان لهم على سائر مضر العزّة بالكثرة والعصبيّة والشّرف فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ويستكينون لغلبهم فلو جعل الأمر في سواهم لتوقّع افتراق الكلمة بمخالفتهم وعدم انقيادهم ولا يقدر غيرهم من قبائل مضر أن يردّهم عن الخلاف ولا يحملهم على الكرّة فتتفرّق الجماعة وتختلف الكلمة.
والشّارع محذّر من ذلك حريص على اتّفاقهم ورفع التّنازع والشّتات بينهم لتحصل اللّحمة والعصبيّة وتحسن الحماية بخلاف ما إذا كان الأمر في قريش لأنّهم قادرون على سوق النّاس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة لأنّهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع النّاس منها فاشترط نسبهم القرشيّ في هذا المنصب وهم أهل العصبيّة القويّة ليكون أبلغ في انتظام الملّة واتّفاق الكلمة وإذا انتظمت كلمتهم انتظمت بانتظامها كلمة مضر أجمع فأذعن لهم سائر العرب وانقادت الأمم سواهم إلى أحكام الملّة ووطئت جنودهم قاضية البلاد كما وقع في أيّام الفتوحات واستمرّ بعدها في الدّولتين إلى أن اضمحلّ أمر الخلافة وتلاشت عصبيّة العرب ويعلم ما كان لقريش من الكثرة والتّغلّب على بطون مضر من مارس أخبار العرب وسيرهم وتفطّن لذلك في أحوالهم.
وقد ذكر ذلك ابن إسحاق في كتاب السّير وغيره فإذا ثبت أنّ اشتراط
القرشيّة إنّما هو لدفع التّنازع بما كان لهم من العصبيّة والغلب وعلمنا أنّ الشّارع لا يخصّ الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمّة علمنا أنّ ذلك إنّما هو من الكفاية فرددناه إليها وطردنا العلّة المشتملة على المقصود من القرشيّة وهي وجود العصبيّة فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبيّة قويّة غالبة على من معها لعصرها ليستتبعوا من سواهم وتجتمع الكلمة على حسن الحماية ولا يعلم ذلك في الأقطار والآفاق كما كان في القرشيّة إذ الدّعوة الإسلاميّة الّتي كانت لهم كانت عامّة وعصبيّة العرب كانت وافية بها فغلبوا سائر الأمم وإنّما يخصّ لهذا العهد كلّ قطر بمن تكون له فيه العصبيّة الغالبة وإذا نظرت سرّ الله في الخلافة لم تعد هذا لأنّه سبحانه إنّما جعل الخليفة نائبا عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردّهم عن مضارّهم وهو مخاطب بذلك ولا يخاطب بالأمر إلّا من له قدرة عليه ألا ترى ما ذكره الإمام ابن الخطيب [1] في شأن النّساء وأنّهنّ في كثير من الأحكام الشّرعية جعلن تبعا للرّجال ولم يدخلن في الخطاب بالوضع. وإنّما دخلن عنده بالقياس وذلك لمّا لم يكن لهن من الأمر شيء وكان الرّجال قوّامين عليهنّ اللَّهمّ إلّا في العبادات الّتي كلّ أحد فيها قائم على نفسه فخطابهنّ فيها بالوضع لا بالقياس ثمّ إنّ الوجود شاهد بذلك فإنّه لا يقوم بأمر أمّة أو جيل إلّا من غلب عليهم وقلّ أن يكون الآمر الشّرعيّ مخالفا للأمر الوجوديّ والله تعالى أعلم.
[1] قوله الإمام ابن الخطيب هو الفخر الرازيّ قاله نصر.