الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في النّقود لا يقف عند غاية وإنّما ترجع غايته إلى الاجتهاد فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التّخليص وقفوا عندها وسمّوها إماما وعيارا يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفا والنّظر في ذلك كلّه لصاحب هذه الوظيفة وهي دينيّة بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثمّ أفردت لهذا العهد كما وقع في الحبشة.
هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافيّة وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانيّة فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانيّة نتكلّم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلّا في قليل من الدّول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السّلطانيّات وكذا نقابة الأنساب الّتي يتوصّل بها إلى الخلافة أو الحقّ في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسّياسة في سائر الدّول لهذا العهد والله مصرّف الأمور كيف يشاء.
الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين وانه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء
وذلك أنّه لمّا بويع أبو بكر رضي الله عنه وكان الصّحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمّونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك فلمّا بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنّهم استثقلوا هذا اللّقب بكثرته وطول إضافته وأنّه يتزايد فيما بعد دائما إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التّمييز بتعدّد الإضافات وكثرتها فلا يعرف فكانوا يعدلون عن هذا اللّقب إلى ما سواه ممّا يناسبه ويدعى به مثله
وكانوا يسمّون قوّاد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة وقد كان الجاهليّة يدعون النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمير مكّة وأمير الحجاز وكان الصّحابة أيضا يدعون سعد بن أبي وقّاص أمير المؤمنين لإمارته على جيش القادسيّة وهم معظم المسلمين يومئذ واتّفق أن دعا بعض الصّحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه النّاس واستصوبوه ودعوه به.
يقال إنّ أوّل من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل عمرو بن العاصي والمغيرة بن شعبة وقيل بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين وسمعها أصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنّه والله أمير المؤمنين حقا فدعوه بذلك وذهب لقبا له في النّاس وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم إلّا سائر دولة بني أميّة ثمّ إنّ الشّيعة خصّوا عليّا باسم الإمام نعتا له بالإمامة الّتي هي أخت الخلافة وتعريضا بمذهبهم في أنّه أحقّ بإمامة الصّلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصّوه بهذا اللّقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلّهم يسمّون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخلفاء حتّى إذا يستولون على الدّولة يحوّلون [1] اللّقب فيما بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العبّاس فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم بالإمام إلى إبراهيم الّذي جهروا بالدّعاء له وعقدوا الرّايات للحرب على أمره فلمّا هلك دعي أخوه السّفّاح بأمير المؤمنين.
وكذا الرّافضة بإفريقيا فإنّهم ما زالوا يدعون أئمّتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتّى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهديّ وكانوا أيضا يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده فلمّا استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس بالإمام وابنه إدريس الأصغر كذلك وهكذا شأنهم وتوارث الخلفاء هذا اللّقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك
[1] الأصح أن يقول: حتى إذا استولوا على الدولة حولوا اللقب.
الحجاز والشّام والعراق والمواطن الّتي هي ديار العرب ومراكز الدّولة وأهل الملّة والفتح وازداد لذلك في عنفوان الدّولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميّز به بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث لذلك بنو العبّاس حجابا لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في ألسنة السّوقة وصونا لها عن الابتذال فتلقّبوا بالسّفّاح والمنصور والمهديّ والهادي والرّشيد إلى آخر الدّولة واقتفى أثرهم في ذلك العبيديّون بإفريقيّة ومصر وتجافى بنو أميّة عن ذلك بالمشرق قبلهم مع الغضاضة والسّذاجة لأنّ العروبيّة ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحوّل عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة وأمّا بالأندلس فتلقّبوا كسلفهم مع ما عملوه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملّة والبعد عن دار الخلافة الّتي هي مركز العصبيّة وأنّهم إنّما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العبّاس حتّى إذا جاء عبد الرحمن الدّاخل الآخر منهم وهو النّاصر بن محمّد بن الأمير عبد الله بن محمّد بن عبد الرّحمن الأوسط لأوّل المائة الرّابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسّمل ذهب عبد الرّحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمّى بأمير المؤمنين وتلقّب بالنّاصر لدين الله، وأخذت من بعده عادة ومذهب لقّن عنه ولم يكن لآبائه وسلف قومه. واستمرّ الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبيّة العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلّب الموالي من العجم على بني العبّاس والصّنائع على العبيديّين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطّوائف بالأندلس على أمر بني أميّة واقتسموه وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسمّوا جميعا باسم السّلطان.
فأمّا ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصّونهم بألقاب تشريفيّة حتّى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدّولة وعضد الدّولة
وركن الدّولة ومعزّ الدّولة ونصير الدّولة ونظام الملك وبهاء الدّولة وذخيرة الملك وأمثال هذه وكان العبيديّون أيضا يخصّون بها أمراء صنهاجة فلمّا استبدّوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدبا معها وعدولا عن سماتها المختصّة بها شأن المتغلّبين المستبدّين كما قلناه ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدّولة والسّلطان وتلاشت عصبيّة الخلافة واضمحلّت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصّة بالملك مثل النّاصر والمنصور وزيادة على ألقاب يختصّون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدّين فقط فيقولون صلاح الدّين أسد الدّين نور الدّين. وأمّا ملوك الطّوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزّعوها لقوّة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيّتها فتلقّبوا بالنّاصر والمنصور والمعتمد والمظفّر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف [1] ينعى عليهم:
ممّا يزهّدني في أرض أندلس
…
أسماء معتمد فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها
…
كالهرّ يحكي انتفاخا صورة الأسد
وأمّا صنهاجة فاقتصروا عن الألقاب الّتي كان الخلفاء العبيديّون يلقّبون بها للتّنويه مثل نصير الدّولة ومعزّ الدّولة واتّصل لهم ذلك لمّا أدالوا من دعوة العبيديّين بدعوة العبّاسيّين ثمّ بعدت الشّقّة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السّلطان وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئا من هذه الألقاب إلّا اسم السّلطان جريا على مذاهب البداوة والغضاضة. ولمّا محي رسم الخلافة وتعطّل دستها [2] وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همّته إلى الدّخول في طاعة الخليفة تكميلا لمراسم دينه
[1] كذا في جميع النسخ واسمه ابن شرف.
[2]
الدست كلمة أعجمية لم ترد في لسان العرب ومعناها صدر البيت أو المجلس والدست من الثياب ما يكفي حاجة الإنسان (المنجد) وقد استعملها ابن خلدون بمعنى المراس.
فخاطب المستظهر العبّاسيّ وأوفد عليه بيعته عبد الله بن العربيّ وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيليّة يطلبان توليته إيّاها على المغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه [1] بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيّهم في لبوسه [2] ورتبته وخاطبه فيه يا أمير المؤمنين تشريفا واختصاصا فاتّخذها لقبا ويقال إنّه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدبا مع رتبة الخلافة لما كان عليه هو وقومه المرابطون من انتحال الدّين واتّباع السّنّة وجاء المهديّ على أثرهم داعيا إلى الحقّ آخذا بمذاهب الأشعريّة ناعيا على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السّلف في ترك التّأويل لظواهر الشّريعة وما يؤول إليه ذلك من التّجسيم كما هو معروف في مذهب الأشعريّة وسمّى أتباعه الموحّدين تعريضا بذلك النّكير وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنّه لا بدّ منه في كلّ زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمّي بالإمام لما قلناه أوّلا من مذهب الشّيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشارة إلى مذهبه في عصمة الإمام وتنزّه عند اتّباعه عن أمير المؤمنين أخذا بمذاهب المتقدّمين من الشّيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق.
ثمّ انتحل عبد المؤمن وليّ عهده اللّقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثارا به عمّن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهديّ من ذلك وأنّه صاحب الأمر وأولياؤه من بعده كذلك دون كلّ أحد لانتفاء عصبيّة قريش وتلاشيها فكان ذلك دأبهم. ولمّا انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أوّلهم مذاهب البداوة والسّذاجة وأتباع لمتونة في انتحال اللّقب بأمير المؤمنين [3] أدبا مع رتبة الخلافة الّتي كانوا على طاعتها لبني
[1] الأصح أن يقول: فانقلبا إليه.
[2]
اللبوس، الثياب والسلاح، قال الله تعالى:«وعلمناه صنعة لبوس لكم» قالوا: هي الدرع تلبس في الحروب (لسان العرب) .
[3]
يتضح من سياق الجملة وما يليها أن الأصح أن يقول: في عدم انتحال اللقب بأمير المؤمنين.