الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وينبغي، فعلا وتركا. وتحصل في ملابسة الملكة في معاملة أبناء جنسه. ومن تتبّع ذلك سائر عمره حصل له العثور على كلّ قضيّة. ولا بدّ بما تسعه التجربة من الزّمن. وقد يسهّل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب زمن التجربة، إذ قلّد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولقّن عنهم ووعى تعليمهم، فيستغني عن طول المعانات في تتبّع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه أو أعرض عن حسن استماعه واتّباعه، طال عناؤه في التأديب بذلك، فيجري في غير مألوف ويدركها على غير نسبة، فتوجد آدابه ومعاملاته سيّئة الأوضاع بادية الخلل، ويفسد حاله في معاشه بين أبناء جنسه. وهذا معنى القول المشهور:«من لم يؤدّبه والده أدّبه الزّمان» . أي من لم يلقّن الآداب في معاملة البشر من والديه- وفي معناهما المشيخة والأكابر- ويتعلّم ذلك منهم، رجع إلى تعلّمه بالطّبع من الواقعات على توالي الأيّام، فيكون الزمان معلّمه ومؤدّبه لضرورة ذلك بضرورة المعاونة الّتي في طبعه.
وهذا هو العقل التجريبيّ، وهو يحصل بعد العقل التمييزيّ الّذي تقع به الأفعال كما بيّناه. وبعد هذين مرتبة العقل النظريّ الّذي تكفّل بتفسيره أهل العلوم، فلا يحتاج إلى تفسيره في هذا الكتاب. والله جعل لكم السّمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون.
الفصل الثالث عشر في علوم البشر وعلوم الملائكة
إنّا نشهد في أنفسنا بالوجدان الصّحيح وجود ثلاثة عوالم: أوّلها: عالم الحسّ، ونعتبره بمدارك الحسّ الّذي شاركنا فيه الحيوانات بالإدراك، ثمّ نعتبر الفكر الّذي اختصّ به البشر فنعلم منه وجود النفس الإنسانيّة علما ضروريّا بما بين جنبينا من مدارك العلميّة الّتي هي فوق مدارك الحسّ، فتراه عالما آخر فوق
عالم الحسّ. ثمّ نستدلّ على عالم ثالث فوقنا بما نجد فينا من آثاره الّتي تلقى في أفئدتنا كالإرادات والوجهات، نحو الحركات الفعليّة، فنعلم أنّ هناك فاعلا يبعثنا عليها من عالم فوق عالمنا وهو عالم الأرواح والملائكة. وفيه ذوات مدركة لوجود آثارها فينا مع ما بيننا وبينها من المغايرة. وربّما يستدلّ على هذا العالم الأعلى الروحانيّ وذواته بالرّؤيا وما نجد في النوم، ويلقى إلينا فيه من الأمور الّتي نحن في غفلة عنها في اليقظة، وتطابق الواقع في الصّحيحة منها، فنعلم أنّها حقّ ومن عالم الحقّ. وأمّا أضغاث الأحلام فصور خياليّة يخزنها الإدراك في الباطن ويجول فيها الفكر بعد الغيبة عن الحسّ. ولا نجد على هذا العالم الروحانيّ برهانا أوضح من هذا، فنعلمه كذلك على الجملة ولا ندرك له تفصيلا.
وما يزعمه الحكماء الإلهيّون في تفصيل ذواته وترتيبها، المسمّاة عندهم بالعقول، فليس شيء من ذلك بيقينيّ لاختلال شرط البرهان النّظريّ فيه، كما هو مقرّر في كلامهم في المنطق. لأنّ من شرطه أن تكون قضاياه أوّليّة ذاتيّة.
وهذه الذوات الروحانيّة مجهولة الذاتيّات، فلا سبيل للبرهان فيها. ولا يبقى لنا مدرك في تفاصيل هذه العوالم إلّا ما نقتبسه من الشّرعيّات الّتي يوضحها الإيمان ويحكمها. وأعقد هذه العوالم في مدركنا عالم البشر، لأنّه وجدانيّ مشهود في مداركنا الجسمانيّة والروحانيّة. ويشترك في عالم الحسّ مع الحيوانات وفي عالم العقل والأرواح مع الملائكة الّذين ذواتهم من جنس ذواته، وهي ذوات مجرّدة عن الجسمانيّة والمادّة، وعقل صرف يتّحد فيه العقل والعاقل والمعقول، وكأنّه ذات حقيقتها الإدراك والعقل، فعلومهم حاصلة دائما مطابقة بالطبع لمعلوماتهم لا يقع فيها خلل البتّة.
وعلم البشر هو حصول صورة المعلوم في ذواتهم بعد أن لا تكون حاصلة. فهو كلّه مكتسب، والذات الّتي يحصل فيها صور المعلومات وهي النفس مادّة هيولانيّة تلبس صور الوجود بصور المعلومات الحاصلة فيها شيئا شيئا، حتّى