الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الملائكة لنصرهم وتردّد خبر السّماء بينهم وتجدّد خطاب الله في كلّ حادثة تتلى عليهم فلم يحتج إلى مراعاة العصبيّة لما شمل النّاس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزّهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهيّة الواقعة والملائكة المتردّدة الّتي وجموا منها ودهشوا من تتابعها فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبيّة وسائر هذه الأنواع مندرجا في ذلك القبيل كما وقع فلمّا انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثمّ بفناء القرون الّذين شاهدوها فاستحالت تلك الصّبغة قليلا قليلا وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان فاعتبر أمر العصبيّة ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهمّا من المهمّات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم غير مهمّة فلم يعهد فيها ثمّ تدرّجت الأهميّة زمان الخلافة بعض الشّيء بما دعت الضّرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الرّدّة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والتّرك كما ذكرناه عن عمر رضي الله عنه ثمّ صارت اليوم من أهمّ الأمور للإلفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبيّة الّتي هي سرّ الوازع عن الفرقة والتّخاذل ومنشأ الاجتماع والتّوافق الكفيل بمقاصد الشّريعة وأحكامها.
والأمر الثّالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصّحابة والتّابعين
فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهاديّة واحد من الطّرفين ومن لم يصادفه فهو مخطئ فإنّ جهته لا تتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احتمال الإصابة ولا يتعيّن المخطئ منها والتأثيم مدفوع عن الكلّ إجماعا وإن قلنا إنّ الكلّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتّأثيم وغاية الخلاف الّذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلاف اجتهاديّ في مسائل دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والّذي وقع من ذلك في الإسلام إنّما هو
واقعة عليّ مع معاوية ومع الزّبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبير مع عبد الملك فأمّا واقعة عليّ فإنّ النّاس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة عليّ والّذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقّف حتّى يجتمع النّاس ويتّفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدريّ وكعب بن مالك والنّعمان بن بشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والّذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتّى يكون شورى بين المسلمين لمن يولّونه وظنّوا بعليّ هوادة في السّكوت عن نصر عثمان من قاتله لا في الممالأة عليه فحاش للَّه من ذلك.
ولقد كان معاوية إذا صرّح بملامته إنّما يوجّهها عليه في سكوته فقط ثمّ اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أنّ بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخّر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وموطن الصّحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعته لم تنعقد لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلّا قليل ولا تكون البيعة إلّا باتّفاق أهل الحلّ والعقد ولا تلزم بعقد من تولّاها من غيرهم أو من القليل منهم وإنّ المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلا بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأمّ المؤمنين عائشة والزّبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمّد وسعد وسعيد والنّعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصّحابة الّذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلّا أنّ أهل العصر الثاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصا طلحة والزّبير
لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك إجماعا من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو معروف.
ولقد سئل عليّ رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفّين فقال: «والّذي نفسي بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبه نقيّ إلّا دخل الجنّة» يشير إلى الفريقين نقله الطّبريّ وغيره فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنّما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السّنّة إلّا قولا للمعتزلة فيمن قاتل عليّا لم يلتفت إليه أحد من أهل الحقّ ولا عرّج عليه وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصّحابة من بعد وعلمت أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمّة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوّهم وملّكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشّام ومصر وكان أكثر العرب الّذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم من الجاهليّة من الجفاء والعصبيّة والتّفاخر والبعد عن سكينة الإيمان وإذا بهم عند استفحال الدّولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السّابقين الأوّلين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغصّوا به لما يرون لأنفسهم من التّقدّم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والرّوم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر فصاروا إلى الغضّ من قريش والأنفة عليهم، والتّمريض في طاعتهم والتّعلّل في ذلك بالتّظلّم منهم والاستعداء عليهم والطّعن فيهم بالعجز عن السّويّة والعدل في القسم عن السّويّة وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر.
بعث ابن عمر ومحمّد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئا ولا رأوا عليهم طعنا وأدّوا ذلك كما علموه فلم ينقطع الطّعن من أهل الأمصار وما زالت الشّناعات تنمو ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحدّه عثمان وعزله ثمّ جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمّال وشكوا إلى عائشة وعليّ والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمّال فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاصي وهو على الكوفة فلمّا رجع اعترضوه بالطّريق وردّوه معزولا ثمّ انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصّحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه من العزل فأبى إلّا أن يكون على جرحة [1] ثمّ نقلوا النّكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسّك بالاجتهاد وهم أيضا كذلك ثمّ تجمّع قوم من الغوغاء وجاءوا إلى المدينة يظهرون طلب النّصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله وفيهم من البصرة والكوفة ومصر وقام معهم في ذلك عليّ وعائشة والزّبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلا ثمّ رجعوا وقد لبّسوا بكتاب مدلّس يزعمون أنّهم لقوة في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا مكّنّا من مروان فإنّه كاتبك فحلف مروان فقال ليس في الحكم أكثر من هذا فحاصروه بداره ثمّ بيّتوه على حين غفلة من النّاس وقتلوه وانفتح باب الفتنة فلكلّ من هؤلاء عذر فيما وقع وكلّهم كانوا مهتمّين بأمر الدّين ولا يضيعون شيئا من تعلّقاته.
ثمّ نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا والله مطّلع على أحوالهم وعالم بهم ونحن لا نظنّ بهم إلّا خيرا لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصّادق فيهم وأمّا الحسين فإنّه لمّا ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره فرأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيّن من أجل فسقه لا سيّما من له القدرة على ذلك وظنّها من نفسه بأهليّته
[1] ما تجرح به شهادة خصمك أو حجته.
وشوكته فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادة وأمّا الشّوكة فغلط يرحمه الله فيها لأنّ عصبيّة مضر كانت في قريش وعصبيّة عبد مناف إنّما كانت في بني أميّة تعرف ذلك لهم قريش وسائر النّاس ولا ينكرونه وإنّما نسي ذلك أوّل الإسلام لما شغل النّاس من الذّهول بالخوارق وأمر الوحي وتردّد الملائكة لنصرة المسلمين فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبيّة الجاهليّة ومنازعها ونسيت ولم يبق إلّا العصبيّة الطّبيعيّة في الحماية والدّفاع ينتفع بها في إقامة الدّين وجهاد المشركين والدّين فيها محكم والعادة معزولة حتّى إذا انقطع أمر النّبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشّيء للعوائد فعادت العصبيّة كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أميّة من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل فقد تبيّن لك غلط الحسين إلّا أنّه في أمر دنيويّ لا يضرّه الغلط فيه وأمّا الحكم الشّرعيّ فلم يغلط فيه لأنّه منوط بظنّه وكان ظنّه القدرة على ذلك ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزّبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عمّا هو بسبيله لما أراده الله.
وأمّا غير الحسين من الصّحابة الّذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشّام والعراق ومن التّابعين لهم فرأوا أنّ الخروج على يزيد وإن كان فاسقا لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدّماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثّموه لأنّه مجتهد وهو أسوة المجتهدين ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنّهم أكثر الصّحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو بكربلاء على فصله وحقّه ويقول سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدريّ وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرّض لذلك لعلمه أنّه عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحدّ الشّافعيّ والمالكيّ والحنفيّ على شرب النّبيذ واعلم أنّ الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن
اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنّما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه ولا تقولنّ إنّ يزيد وإن كان فاسقا ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعا وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسقه والحسين فيها شهيد مثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الّذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكيّ في هذا فقال في كتابه الّذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه:
إنّ الحسين قتل بشرع جدّه وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء وأمّا ابن الزّبير فإنّه رأى في منامه ما رآه الحسين وظنّ كما ظنّ وغلطه في أمر الشّوكة أعظم لأنّ بني أسد لا يقاومون بني أميّة في جاهليّة ولا إسلام. والقول بتعيّن الخطاء في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع عليّ لا سبيل إليه. لأنّ الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده هاهنا. وأمّا يزيد فعيّن خطأه فسقه.
وعبد الملك صاحب ابن الزّبير أعظم النّاس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير وهم معه بالحجاز مع أنّ الكثير [1] من الصّحابة كانوا يرون أنّ بيعة ابن الزّبير لم تنعقد لأنّه لم يحضرها أهل العقد والحلّ كبيعة مروان وابن الزّبير على خلاف ذلك والكلّ مجتهدون محمولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهما والقتل الّذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحرّيه الحقّ هذا هو الّذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الّذي يختصّ
[1] كذا في جميع النسخ ومقتضى السياق: هذا إلى أن الكثير.