الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه ما قصده من الاختصار وليكون أسهل للحفظ لأجل نظمها. فاستوعب فيها الفنّ استيعابا حسنا وعني النّاس بحفظها وتلقينها للولدان [1] المتعلّمين وجرى العمل على ذلك في أمصار المغرب والأندلس. وربّما أضيف إلى فنّ القراءات فنّ الرّسم أيضا وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف ورسومه الخطّيّة لأنّ فيه حروفا كثيرة وقع رسمها على غير المعروف من قياس الخطّ كزيادة الياء في بأييد وزيادة الألف في لا أذبحنّه ولا أوضعوا والواو في جزاء الظّالمين وحذف الألفات في مواضع دون أخرى وما رسم فيه من التّاءات ممدودا، والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك وقد مرّ تعليل هذا الرّسم المصحفيّ عند الكلام في الخطّ.
فلمّا جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخطّ وقانونه احتيج إلى حصرها، فكتب النّاس فيها أيضا عند كتبهم في العلوم. وانتهت بالمغرب إلى أبي عمر الدّانيّ المذكور فكتب فيها كتبا من أشهرها: كتاب المقنع وأخذ به النّاس وعوّلوا عليه. ونظمه أبو القاسم الشّاطبيّ في قصيدته المشهورة على رويّ الرّاء وولع النّاس بحفظها. ثمّ كثر الخلاف في الرّسم في كلمات وحروف أخرى، ذكرها أبو داود سليمان بن نجاح من موالي مجاهد في كتبه وهو من تلاميذ [2] أبي عمرو الدّانيّ والمشتهر بحمل علومه ورواية كتبه ثمّ نقل بعده خلاف آخر فنظم الخرّاز من المتأخّرين بالمغرب أرجوزة أخرى زاد فيها على المقنع خلافا كثيرا، وعزاه لناقليه، واشتهرت بالمغرب، واقتصر النّاس على حفظها. وهجروا بها كتب أبي داود وأبي عمرو والشّاطبيّ في الرّسم.
وأمّا التفسير
.
فاعلم أنّ القرآن نزّل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلّهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه. وكان ينزّل جملا جملا وآيات آيات لبيان التّوحيد والفروض الدّينيّة بحسب الوقائع. ومنها ما هو
[1] وفي النسخة الباريسية: للولد.
[2]
وفي النسخة الباريسية: وهو تلميذ.
في العقائد الإيمانيّة، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدّم ومنها ما يتأخّر ويكون ناسخا له. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم هو المبيّن لذلك كما قال تعالى:«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ 16: 44» [1] فكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يبيّن المجمل ويميّز النّاسخ من المنسوخ ويعرّفه أصحابه فعرفوه وعرفوا سبب نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه. كما علم من قوله تعالى: «إِذا جاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ 110: 1» إنّها نعي النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ونقل ذلك عن الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وتداول ذلك التّابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم. ولم يزل متناقلا بين الصّدر الأوّل والسّلف حتّى صارت المعارف علوما ودونت الكتب فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصّحابة والتّابعين وانتهى ذلك إلى الطّبريّ والواقديّ والثّعالبيّ وأمثال ذلك من المفسّرين فكتبوا فيه ما شاء الله أن يكتبوه من الآثار. ثمّ صارت علوم اللّسان صناعيّة [2] من الكلام في موضوعات اللّغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التّراكيب فوضعت الدّواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب فتنوسي ذلك وصارت تتلقّى من كتب أهل اللّسان. فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنّه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم. وصار التّفسير على صنفين: تفسير نقليّ مسند إلى الآثار المنقولة عن السّلف وهي معرفة النّاسخ والمنسوخ وأسباب النّزول ومقاصد الآي.
وكلّ ذلك لا يعرف إلّا بالنّقل عن الصّحابة والتّابعين. وقد جمع المتقدّمون في ذلك وأوعوا، إلّا أنّ كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغثّ والسّمين والمقبول والمردود. والسّبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنّما غلبت عليهم البداوة والأمّيّة. وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتشوّق إليه النّفوس البشريّة [3] في أسباب المكوّنات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم وهم أهل التّوراة من اليهود ومن تبع دينهم
[1] سورة النحل (من الآية 44) .
[2]
وفي نسخة أخرى: صناعة.
[3]
وفي النسخة الباريسية: النفوس الإنسانية.
من النّصارى. وأهل التّوراة الّذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الّذين أخذوا بدين اليهوديّة. فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشّرعيّة الّتي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك. وهؤلاء مثل كعب الأحبار ووهب بن منبّه وعبد الله بن سلام وأمثالهم. فامتلأت التّفاسير من المنقولات عندهم [1] في أمثال هذه الأغراض أخبار موقوفة عليهم وليست ممّا يرجع إلى الأحكام فيتحرّى في الصّحّة الّتي يجب بها العمل. وتساهل المفسّرون في مثل ذلك وملئوا كتب التّفسير بهذه المنقولات.
وأصلها كما قلناه عن أهل التّوراة الّذين يسكنون البادية، ولا تحقيق عندهم بمعرفة ما ينقلونه من ذلك إلّا أنّهم بعد صيتهم وعظمت أقدارهم، لما كانوا عليه من المقامات في الدّين والملّة، فتلقّيت بالقبول من يومئذ. فلمّا رجع النّاس إلى التّحقيق والتّمحيص وجاء أبو محمّد بن عطيّة من المتأخرين بالمغرب فلخّص تلك التّفاسير كلّها وتحرّى ما هو أقرب إلى الصّحّة منها ووضع ذلك في كتاب متداول بين أهل المغرب والأندلس حسن المنحى. وتبعه القرطبيّ في تلك الطّريقة على منهاج واحد في كتاب آخر مشهور بالمشرق.
والصّنف الآخر من التّفسير وهو ما يرجع إلى اللّسان من معرفة اللّغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب. وهذا الصّنف من التّفسير قلّ أن ينفرد عن الأوّل إذ الأوّل هو المقصود بالذّات. وإنّما جاء هذا بعد أن صار اللّسان وعلومه صناعة [2] . نعم قد يكون في بعض التّفاسير غالبا ومن أحسن ما اشتمل عليه هذا الفنّ من التّفاسير كتاب الكشّاف للزّمخشريّ [3] من أهل خوارزم العراق إلّا أنّ مؤلّفه من أهل الاعتزال في العقائد فيأتي بالحجاج على
[1] وفي النسخة الباريسية: من المنقولات عنهم.
[2]
وفي نسخة أخرى: صناعات.
[3]
(ورد في معجم البلدان: خوارزم ليس اسما للمدينة إنما هو اسم للناحية بجملتها وورد في كتاب الأعلام للزركلي، الزمخشريّ ولد في زمخشر من قرى خوارزم) .