الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصاحب البريد وولاية الثّغور ثمّ اعلم أنّ الوظائف السّلطانيّة في هذه الملّة الإسلاميّة مندرجة تحت الخلافة لاحتمال منصب الخلافة على الدّين والدّنيا كما قدّمناه فالأحكام الشّرعيّة متعلّقة بجميعها وموجودة لكلّ واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلّق الحكم الشّرعيّ بجميع أفعال العباد والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسّلطان وشروط تقليدها استبدادا على الخلافة وهو معنى السّلطان أو تعويضا منها وهو معنى
الوزارة
عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السّياسات مطلقا أو مقيّدا وفي موجبات العزل إن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسّلطان وكذا في سائر الوظائف الّتي تحت الملك والسّلطان من وزارة أو جباية أو ولاية لا بدّ للفقيه من النّظر في جميع ذلك كما قدّمناه من انسحاب حكم الخلافة الشّرعيّة في الملّة الإسلاميّة على رتبة الملك والسّلطان إلّا أنّ كلامنا في وظائف الملك والسّلطان ورتبته إنّما هو بمقتضى طبيعة العمران ووجود البشر لا بما يخصّها من أحكام الشّرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشّرعيّة مع أنّها مستوفاة في كتب الأحكام السّلطانيّة مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماورديّ وغيره من أعلام الفقهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك وإنّما تكلّمنا في الوظائف الخلافيّة وأفردناها لنميّز بينها وبين الوظائف السّلطانيّة فقط لا لتحقيق أحكامها الشّرعيّة فليس من غرض كتابنا وإنّما نتكلّم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوجود الإنسانيّ والله الموفّق.
الوزارة:
وهي أمّ الخطط السّلطانيّة والرّتب الملوكيّة لأنّ اسمها يدلّ على مطلق الإعانة فإنّ الوزارة مأخوذة إمّا من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثّقل كأنّه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة وقد كنّا قدّمنا في أوّل الفصل أنّ أحوال السّلطان وتصرّفاته لا تعدو أربعة لأنّها إمّا أن تكون في أمور حماية الكافّة وأسبابها من النّظر في الجدّ والسّلاح والحروب وسائر أمور
الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف في الدّول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإمّا أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضبطة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمّى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإمّا أن يكون في مدافعة النّاس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الّذي يحجبه. فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه. وكلّ خطّة أو رتبة من رتب الملك والسّلطان فإليها ترجع. إلّا أنّ الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامّة فيما تحت يد السّلطان من ذلك الصّنف إذ هو يقتضي مباشرة السّلطان دائما ومشاركته في كلّ صنف من أحوال ملكه وأمّا ما كان خاصّا ببعض النّاس أو ببعض الجهات فيكون دون الرّتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصّة أو النّظر في أمر خاصّ كحسبة الطّعام أو النّظر في السّكّة فإنّ هذه كلّها نظر في أحوال خاصّة فيكون صاحبها تبعا لأهل النّظر العامّ وتكون رتبته مرءوسة لأولئك. وما زال الأمر في الدّول قبل الإسلام هكذا حتّى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلّها بذهاب رسم الملك إلى ما هو طبيعيّ من المعاونة بالرّأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بدّ منه فكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهمّاته العامّة والخاصّة ويخصّ مع ذلك أبا بكر بخصوصيّات أخرى حتّى كان العرب الّذين عرفوا الدّول وأحوالها في كسرى وقيصر والنّجاشيّ يسمّون أبا بكر وزيره ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام وكذا عمر مع أبي بكر وعليّ وعثمان مع عمر وأمّا حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأنّ القوم كانوا عربا أميّين لا يحسنون الكتاب [1] والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب [2] أو أفرادا من موالي العجم ممّن يجيده وكان قليلا فيهم
[1] أي الكتابة.
[2]
أهل الكتاب: أي النصارى واليهود.
وأمّا أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأنّ الأميّة كانت صفتهم الّتي امتازوا بها وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصّة للأمّيّة الّتي كانت فيهم والأمانة العامّة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السّياسة إلى اختياره لأنّ الخلافة إنّما هي دين ليست من السّياسة الملكيّة في شيء وأيضا فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد لخليفة أحسنها لأنّ الكلّ كانوا يعبّرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات ولم يبق إلّا الخطّ فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عنّ له من يحسنه وأمّا مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظورا بالشّريعة فلم يفعلوه فلمّا انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السّلطان وألقابه كان أوّل شيء بدئ به في الدّولة شأن الباب وسدّه دون الجهور بما كانوا يخشون عن أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعليّ ومعاوية وعمر بن العاصي وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام النّاس عليهم وشغلهم بهم عن المهمّات فاتّخذوا من يقوم لهم بذلك وسمّوه الحاجب وقد جاء أنّ عبد الملك لمّا ولّى حاجبه قال له «قد ولّيتك حجابة بابي إلّا عن ثلاثة المؤذّن للصّلاة فإنّه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطّعام لئلّا يفسد» ثمّ استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير وبقي أمر الحسبان في الموالي والذّمّيّين واتّخذ للسّجلّات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السّلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنّه إنّما احتيج له من حيث الخطّ والكتاب لا من حيث اللّسان الّذي هو الكلام إذ اللّسان لذلك العهد على حاله لم يفسد فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ في سائر دولة بني أميّة فكان النّظر للوزير عامّا في أحوال التّدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النّظر في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهليّة وغير ذلك فلمّا جاءت دولة بني العبّاس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت وعظم شأن الوزير وصارت إليه النّيابة في إنفاذ الحلّ والعقد
تعيّنت مرتبته في الدّولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرّقاب وجعل لها النّظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطّته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النّظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النّظر فيه ثمّ جعل له النّظر في القلم والتّرسيل لصون أسرار السّلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللّسان قد فسد عند الجمهور وجعل الخاتم لسجلّات السّلطان ليحفظها من الذّياع والشّياع [1] ودفع إليه فصار اسم الوزير جامعا لخطّتي السّيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتّى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسّلطان أيّام الرّشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدّولة ولم يخرج عنه من الرّتب السّلطانيّة كلّها إلّا الحجابة الّتي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك ثمّ جاء في الدّولة العبّاسيّة شأن الاستبداد على السّلطان [2] وتعاور فيها استبداد الوزارة مرّة والسّلطان أخرى وصار الوزير إذا استبدّ محتاجا إلى استنابة الخليفة إيّاه لذلك لتصحّ الأحكام الشّرعيّة وتجيء على حالها كما تقدّمت فانقسمت الوزارة حينئذ إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السّلطان قائما على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبدّا عليه ثمّ استمرّ الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطّل رسم الخلافة ولم يكن لأولئك المتغلّبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللّقب لأنّهم خول لهم فتسمّوا بالإمارة والسّلطان وكان المستبدّ على الدّولة يسمّى أمير الأمراء أو بالسّلطان إلى ما يحلّيه به الخليفة من ألقابه كما تراه في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولّاها للخليفة في خاصّته ولم يزل هذا الشّأن عندهم إلى آخر دولتهم وفسد اللّسان خلال ذلك كلّه وصارت صناعة ينتحلها بعض النّاس فامتهنت وترفّع الوزراء عنها لذلك ولأنّهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخيّر لها من سائر الطّبقات واختصّت به وصارت خادمة للوزير واختصّ اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية
[1] الذياع والشياع: ليسا من مصادر ذاع وشاع والأصح أن يقول: الذيوع والشيوع.
[2]
أي الخليفة كما يتضح من العبارة اللاحقة.
على أهل الرّتب وأمره نافذ في الكلّ إمّا نيابة أو استبدادا واستمرّ الأمر على هذا ثمّ جاءت دولة التّرك آخرا بمصر فرأوا أنّ الوزارة قد ابتذلت بترفّع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعقّب بنظر الأمير فصارت مرءوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرّتبة العالية في الدّولة عن اسم الوزارة وصار صاحب الأحكام والنّظر في الجند يسمّى عندهم بالنّائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختصّ اسم الوزير عندهم بالنّظر في الجباية. وأمّا دولة بني أميّة بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أوّل الدّولة ثمّ قسموا خطّته أصنافا وأفردوا لكلّ صنف وزيرا فجعلوا لحسبان المال وزيرا وللتّرسيل وزيرا وللنّظر في حوائج المتظلّمين وزيرا وللنّظر في أحوال أهل الثّغور وزيرا وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضدة لهم وينفّذون أمر السّلطان هناك كلّ فيما جعل له وأفرد للتّردّد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السّلطان في كلّ وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشّأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطّة الحاجب ومرتبته على سائر الرّتب حتّى صار ملوك الطّوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمّى الحاجب كما نذكره ثمّ جاءت دولة الشّيعة بإفريقيّة والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أوّلا وتنقيح أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم، ولمّا جاءت دولة الموحّدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أوّلا للبداوة ثمّ صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب وكان اسم الوزير لمن يحجب السّلطان في مجلسه ويقف بالوفود والدّاخلين على السّلطان عند الحدود في تحيّتهم وخطابهم والآداب الّتي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطّة الحجابة عنه ما شاءوا ولم يزل الشّأن ذلك إلى هذا العهد وأمّا في دولة التّرك بالمشرق فيسمّون هذا الّذي يقف بالنّاس على حدود الآداب في اللّقاء والتّحيّة في مجالس السّلطان والتّقدّم بالوفود بين يديه الدّويدار