الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه فتأمّل ذلك.
يشهد لذلك من كلام هؤلاء المتصوّفة في أمر الفاطميّ وما شحنوا كتبهم في ذلك ممّا ليس لسلف المتصوّفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنّما هو مأخوذ من كلام الشّيعة والرّافضة ومذاهبهم في كتبهم. والله يهدي إلى الحقّ.
تذييل:
وقد رأيت أن أجلب هنا فصلا من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس، أبي مهدي عيسى بن الزيّات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهرويّ الّتي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرّح بها وهي قوله:
ما وحّد الواحد من واحد
…
إذ كلّ من وحّده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته
…
تثنية أبطلها الواحد
توحيده إيّاه توحيده
…
ونعت من ينعته لأحد
فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: «استشكل النّاس إطلاق لفظ الجمود على كلّ من وحّد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفّوه. ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أنّ معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأنّ الوجود كلّه حقيقة واحدة وانية واحدة. وقد قال أبو سعيد الجزّار من كبار القوم: الحقّ عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أنّ وقوع التعدّد في تلك الحقيقة وجود الاثنينيّة.
وهم باعتبار حضرات الحسّ بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأنّ كلّ ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم. ومعنى قول كبير الّذي صدّقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:«ألا كلّ شيء، ما خلا الله باطل» . قالوا: فمن وحّد ونعت، فقد قال بموجد محدث، هو نفسه، وتوحيد محدث هو فعله، موجود قديم، هو معبود.
وقد تقدّم معنى التّوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث، الآن ثابتة بل متعدّدة، والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معا في بيت واحد: ليس في البيت غيرك، فيقول الآخر بلسان حاله: لا يصحّ هذا إلّا لو عدمت أنت! وقد قال بعض المحقّقين في قولهم: «خلق الله الزمان» هذه ألفاظ تناقض أصولها لأنّ خلق الزمان متقدّم على الزمان وهو فعل لا بدّ من وقوعه في الزمان، وإنّما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللّغات عن تأدية الحقّ فيها وبها. فإذا تحقّق أنّ الموحّد هو الموحّد، وعدم ما سواه جملة، صحّ التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم «لا يعرف الله إلّا الله» ولا حرج على من وحّد الحقّ مع بقاء الرسوم والآثار، وإنّما هو من باب:«حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين» . لأنّ ذلك لازم التقييد والعبوديّة والشفعيّة. ومن ترقّى إلى مقام الجمع كان في حقّه نقصا، مع علمه بمرتبته، وأنّه تلبيس تستلزمه العبوديّة ويرمعه الشهود ويطهّر من دنس حدوثه عين الجمع. وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكلّ اعتبار على الانتهاء إلى الواحد، وإنّما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعيّة ويحصل التوحيد المطلق عينا لا خطابا. وعبارة:
فمن سلّم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله: كنت سمعه وبصره. وإذا عرفت المعاني لا مشاحّة في الألفاظ. والّذي يفيده هذا كلّه تحقّق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتّعمّق في مثل هذا حجاب، وهو الّذي أوقع في المقالات المعروفة. انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيّات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الّذي ألّفه في المحبّة، وسمّاه التّعريف بالحبّ الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مرارا، إلّا أنّي رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدي به. والله الموفّق.
ثمّ إنّ كثيرا من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرّدّ على هؤلاء المتأخّرين في هذه
المقالات وأمثالها وشملوا بالنّكير سائر ما وقع لهم في الطّريقة. والحقّ أنّ كلامهم معهم فيه تفصيل فإنّ كلامهم في أربعة مواضع: أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النّفس على الأعمال لتحصّل تلك الأذواق الّتي تصير مقاما ويترقّى منه إلى غيره كما قلناه، وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصّفات الرّبّانيّة والعرش والكرسيّ والملائكة والوحي والنّبوة والرّوح وحقائق كلّ موجود غائب أو شاهد وتركيب الألوان في صدورها عن موجودها وتكوّنها كما مرّ، وثالثها التّصرّفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات، ورابعها ألفاظ موهمة الظّاهر صدرت من الكثير من أئمّة القوم يعبّرون عنها في اصطلاحهم بالشّطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأوّل. فأمّا الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النّفس على التّقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتّحقّق بها هو عين السّعادة. وأمّا الكلام في كرامات القوم وأخبارهم بالمغيّبات وتصرّفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحقّ. وما احتجّ به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ من أئمّة الأشعريّة على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرّق المحقّقون من أهل السّنّة بينهما بالتّحدّي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثمّ إنّ وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأنّ دلالة المعجزة على الصّدق عقليّة فإنّ صفة نفسها التّصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدّلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أنّ الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابرة. وقد وقع للصّحابة وأكابر السّلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور. وأمّا الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويّات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنّه وجدانيّ عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللّغات لا تعطى له دلالة على مرادهم
منه لأنّها لم توضع إلّا للمتعارف وأكثره من المحسوسات. فينبغي أن لا نتعرّض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشّريعة فأكرم بها سعادة. وأمّا الألفاظ الموهمة الّتي يعبّرون عنها بالشّطحات ويؤاخذهم بها أهل الشّرع فاعلم أنّ الإنصاف في شأن القوم أنّهم أهل غيبة عن الحسّ والواردات تملكهم حتّى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله وأنّ العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطاميّ وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبيّن لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأمّا من تكلّم بمثلها وهو حاضر في حسّه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضا. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوّفة بقتل الحلّاج لأنّه تكلّم في حضور وهو مالك لحاله. والله أعلم. وسلف المتصوّفة من أهل الرّسالة أعلام الملّة الّذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النّوع من الإدراك إنّما همّهم الاتّباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرّون منه ويرون أنّه من العوائق والمحن وأنّه إدراك من إدراكات النّفس مخلوق حادث وأنّ الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلا ينطقون بشيء ممّا يدركون. بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل يلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحسّ قبل الكشف من الاتّباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد والله الموفّق للصّواب
.