الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طبقات النّاس إنّما كان حكمهم على الدّهماء وأهل الرّيب والضّرب على أيدي الرّعاع والفجرة. ثمّ عظمت نباهتها في دولة بني أميّة بالأندلس ونوّعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى وجعل حكم الكبرى على الخاصّة والدّهماء وجعل له الحكم على أهل المراتب السّلطانيّة والضّرب على أيديهم في الظّلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه وجعل صاحب الصّغرى مخصوصا بالعامّة ونصب لصاحب الكبرى كرسيّ بباب دار السّلطان ورجال يتبوّءون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلّا في تصريفه وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدّولة حتّى كانت ترشيحا للوزارة والحجابة.
وأمّا في دولة الموحّدين بالمغرب فكان لها حظّ من التّنويه وإن لم يجعلوها عامّة وكان لا يليها إلّا رجالات الموحّدين وكبراؤهم ولم يكن له التّحكّم على أهل المراتب السّلطانيّة ثمّ فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحّدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين. وأمّا في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة التّرك بالمشرق في رجالات التّرك أو أعقاب أهل الدّولة قبلهم من التّرك يتخيّرونهم لها في النّظر بما يظهر منهم من الصّلابة والمضاء في الأحكام لقطع موادّ الفساد وحسم أبواب الدّعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشّرعيّة والسّياسيّة كما تقتضيه رعاية المصالح العامّة في المدينة والله مقلّب اللّيل والنّهار وهو العزيز الجبّار والله تعالى أعلم.
قيادة الأساطيل:
وهي من مراتب الدّولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرءوسة لصاحب السّيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال ويسمّى صاحبها في عرفهم البلمند بتفخيم اللّام منقولا من لغة الإفرنجة فإنّه اسمها في اصطلاح لغتهم وإنّما اختصّت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنّهما جميعا على ضفّة البحر الرّوميّ من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبيّة بلاد البربر كلّهم
من سبتة إلى الشّام وعلى عدوته الشّماليّة بلاد الأندلس والإفرنجة والصّقالبة والرّوم إلى بلاد الشّام أيضا ويسمّى البحر الرّوميّ والبحر الشّاميّ نسبة إلى أهل عدوته والسّاكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمّة من أمم البحار فقد كانت الرّوم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشّماليّة من هذا البحر الرّوميّ وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السّفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله ولمّا أسفّ [1] من أسفّ منهم إلى ملك العدوة الجنوبيّة مثل الرّوم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا [2] في الأساطيل وملكوها وتغلّبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لها بها المدن الحافلة مثل قرطاجنّة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة وكان صاحب قرطاجنّة من قبلهم يحارب صاحب رومة ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر السّاكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث ولمّا ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطّاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما «أن صف لي البحر» فكتب إليه: «إنّ البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود» فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه ولم يركبه أحد من العرب إلّا من افتات على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزديّ سيّد بجيلة لمّا أغزاه عمّان فبلغه غزوة في البحر فأنكر عليه وعنّفه أنّه ركب البحر للغزو ولم يزل الشّأن ذلك حتّى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده والسّبب في ذلك أنّ العرب لبداوتهم لم يكونوا مهرة في ثقافته وركوبه والرّوم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التّقلّب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدّارية بثقافته فلمّا استقرّ الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولا لهم وتحت أيديهم وتقرّب كلّ ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النّواتية في حاجاتهم البحريّة أمما وتكرّرت ممارستهم للبحر
[1] دنا.
[2]
قطعوا.
وثقافته واستحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشئوا السّفن فيه والشّواني وشحنوا الأساطيل بالرّجال والسّلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصّوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشّام وإفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية والمغرب والأندلس وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسّان بن النّعمان عامل إفريقية باتّخاذ دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحريّة حرصا على مراسم الجهاد ومنها كان فتح صقلّيّة أيّام زيادة الله الأوّل ابن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرّة أيضا في أيّامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزى صقلّيّة أيّام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديّين والأمويّين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السّواحل بالإفساد والتّخريب.
وانتهى أسطول الأندلس أيّام عبد الرّحمن النّاصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريبا منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن دماحس ومرفأها للحطّ والإقلاع بجاية والمرية وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كلّ بلد تتّخذ فيه السّفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النّواتية يدبّر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبّر أمر جريته بالرّيح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطانيّ مهمّ عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السّلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلّهم إليه ثمّ يسرّحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة وكان المسلمون لعهدة الدّولة الإسلاميّة قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النّصرانيّة قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيّامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر
الجزائر المنقطعة عن السّواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلّيّة وقوصرّة ومالطة وأقريطش وقبرس وسائر ممالك الرّوم والإفرنج وكان أبو القاسم الشّيعيّ وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهديّة جزيرة جنوة فتنقلب بالظّفر والغنيمة وافتتح مجاهد العامريّ صاحب دانية من ملوك الطّوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النّصارى لوقتها والمسلمون خلال ذلك كلّه قد تغلّبوا على كثير من لجّة هذا البحر وصارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلاميّة تجيز البحر في الأساطيل من صقلّيّة إلى البرّ الكبير المقابل لها من العدوة الشّماليّة فتوقع بملوك الأفرنج وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيّام بني الحسين ملوك صقلّيّة القائمين فيها بدعوة العبيديّين وانحازت أمم النّصرانيّة بأساطيلهم إلى الجانب الشّماليّ الشّرقيّ منه من سواحل الإفرنجة والصّقالبة وجزائر الرّومانيّة لا يعدونها وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدّة وعددا واختلفت في طرقه سلما وحربا فلم تظهر للنّصرانيّة فيه ألواح حتّى إذا أدرك الدّولة العبيديّة والأمويّة الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مدّ النّصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشّرقيّة مثل صقلّيّة وإقريطش ومالطة فملكوها ثمّ ألحّوا على سواحل الشّام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكّا واستولوا على جميع الثّغور بسواحل الشّام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لمظهر دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثمّ على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثمّ ملكوا المهدية مقرّ ملوك العبيديّين من يد أعقاب بلكّين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرّة بهذا البحر وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشّام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدّولة العبيديّة عناية تجاوزت الحدّ كما هو معروف في أخبارهم فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقيّة والمغرب فصارت مختصّة بها وكان الجانب الغربيّ من هذا
البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوّة لم يتحيّفه عدو ولا كانت لهم به كرّة فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعا. ولمّا استفحلت دولة الموحّدين في المائة السّادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطّة هذا الأسطول على أتمّ ما عرف وأعظم ما عهد وكان قائد أسطولهم أحمد الصّقلّيّ أصله من صدّ غيار الموطّنين بجزيرة جربة من سرويكش أسرة النّصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلّيّة واستكفاه ثمّ هلك، وولي ابنه فأسخطه ببعض النّزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السّيّد بها من بني عبد المؤمن وأجاز مراكش فتلقّاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرّة والكرامة وأجزل الصّلة وقلّده أمر أساطيله فجلّى في جهاد أمم النّصرانيّة وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحّدين. وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه ولمّا قام صلاح الدّين يوسف بن أيّوب ملك مصر والشّام لعهده باسترجاع ثغور الشّام من يد أمم النّصرانيّة وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثّغور من كلّ ناحية قريبة لبيت المقدس الّذي كانوا قد استولوا عليه فأمدّوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندريّة لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشّرقيّ من البحريّة وتعدّد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل فأوفد صلاح الدّين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحّدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر، وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالبا مدد الأساطيل لتحول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من أمداد النّصرانيّة بثغور الشّام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيسانيّ يقول في افتتاحه
«فتح الله لسيّدنا أبواب المناهج والميامن» حسبما نقله العماد الأصفهانيّ في كتاب الفتح القيسيّ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرّها في نفسه وحملهم على مناهج البرّ والكرامة وردّهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنّصرانيّة في الجانب الشّرقيّ من هذا البحر من الاستطالة وعدم عناية الدّول بمصر والشّام لذلك العهد وما بعده لشأن الأساطيل البحريّة والاستعداد منها للدّولة ولمّا هلك أبو يعقوب المنصور واعتلّت دولة الموحّدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجئوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر الّتي بالجانب الغربيّ من البحر الرّوميّ قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدّت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوّة المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السّلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإنّ أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدّة النّصرانيّة وعديدهم ثمّ تراجعت عن ذلك قوّة المسلمين في الأساطيل لضعف الدّولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدويّة بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسيّة ورجع النّصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدّربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجّته على أعواده وصار المسلمون فيه كالأجانب إلّا قليلا من أهل البلاد السّاحليّة لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأنصار والأعوان أو قلّة من الدّولة تستجيش لهم أعوانا وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكا وبقيت الرّتبة لهذا العهد في الدّولة الغربيّة محفوظة والرّسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والرّكوب معهودا لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السّلطانيّة في البلاد البحريّة والمسلمون يستهبّون الرّيح على الكفر وأهله فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الحدثان أنّه لا بدّ للمسلمين من الكرّة على النّصرانيّة وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وأنّ ذلك يكون في الأساطيل والله وليّ المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل.