الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما مرّ في أنّ المجد والحسب إنّما هو أربعة آباء وقد أتيناك فيه ببرهان طبيعيّ كاف ظاهر مبنيّ على ما مهّدناه قبل من المقدّمات فتأمّله فلن تعدو وجه الحقّ إن كنت من أهل الإنصاف وهذه الأجيال الثّلاثة عمرها مائة وعشرون سنة على ما مرّ ولا تعدو الدّول في الغالب هذا العمر بتقريب قبله أو بعده إلّا إن عرض لها عارض آخر من فقدان المطالب فيكون الهرم حاصلا مستوليا والطّالب لم يحضرها ولو قد جاء الطّالب لما وجد مدافعا «فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ 7: 34» فهذا العمر للدّولة بمثابة عمر الشّخص من التّزيّد إلى سنّ الوقوف ثمّ إلى سنّ الرّجوع ولهذا يجري على ألسنة النّاس في المشهور أنّ عمر الدّولة مائة سنة وهذا معناه فاعتبره واتّخذ منه قانونا يصحّح لك عدد الآباء في عمود النّسب الّذي تريده من قبل معرفة السّنين الماضية إذا كنت قد استربت في عددهم وكانت السّنون الماضية منذ أوّلهم محصّلة لديك فعدّ لكلّ مائة من السّنين ثلاثة من الآباء فإن نفدت على هذا القياس مع نفود [1] عددهم فهو صحيح وإن نقصت عنه بجيل فقد غلط عددهم بزيادة واحد في عمود النّسب وإن زادت بمثله فقد سقط واحد وكذلك تأخذ عدد السّنين من عددهم إذا كان محصّلا لديك فتأمّله تجده في الغالب صحيحا «وَالله يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ 73: 20» .
الفصل الخامس عشر في انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة
اعلم أنّ هذه الأطوار طبيعيّة للدّول فإنّ الغلب الّذي يكون به الملك إنّما هو بالعصبيّة وبما يتبعها من شدّة البأس وتعوّد الافتراس ولا يكون ذلك غالبا إلّا مع البداوة فطور الدّولة من أوّلها بداوة ثمّ إذا حصل الملك تبعه الرّفه واتّساع الأحوال
[1] الأصح أن يقول نفاد عددهم.
والحضارة إنّما هي تفنّن في التّرف وإحكام الصّنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والأبنية وسائر عوائد المنزل وأحواله فلكلّ واحد منها صنائع في استجادته والتّأنّق فيه تختصّ به ويتلو بعضها بعضا وتتكثّر باختلاف ما تنزع إليه النّفوس من الشّهوات والملاذّ والتّنعّم بأحوال التّرف وما تتلوّن به من العوائد فصار طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعيّة الرّفه للملك وأهل الدّول أبدا يقلّدون في طور الحضارة وأحوالها للدّولة السّابقة قبلهم. فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون، ومثل هذا وقع للعرب لمّا كان الفتح وملكوا فارس والرّوم واستخدموا بناتهم وأبناءهم ولم يكونوا لذلك العهد في شيء من الحضارة فقد حكي أنّه قدّم لهم المرقّق [1] فكانوا يحسبونه رقاعا وعثروا على الكافور في خزائن كسرى فاستعملوه في عجينهم ملحا ومثال ذلك كثير فلمّا استعبدوا أهل الدّول قبلهم واستعملوهم في مهنهم وحاجات منازلهم واختاروا منهم المهرة في أمثال ذلك والقومة عليهم أفادوهم علاج ذلك والقيام على عمله والتّفنّن فيه مع ما حصل لهم من اتّساع العيش والتّفنّن في أحواله فبلغوا الغاية في ذلك وتطوّروا بطور الحضارة والتّرف في الأحوال واستجادة المطاعم والمشارب والملابس والمباني والأسلحة والفرش والآنية وسائر الماعون والخرثيّ [2] وكذلك أحوالهم في أيّام المباهاة والولائم وليالي الأعراس فأتوا من ذلك وراء الغاية وانظر ما نقله المسعوديّ والطّبريّ وغيرهما في إعراس المأمون ببوران بنت الحسن بن سهل وما بذل أبوها لحاشية المأمون حين وافاه في خطبتها إلى داره بفم الصّلح وركب إليها في السّفين وما أنفق في أملاكها [3] وما نحلها المأمون وأنفق في عرسها تقف من ذلك على العجب فمنه أنّ الحسن بن سهل نثر يوم الأملاك في الصّنيع الّذي حضره حاشية المأمون فنثر على
[1] الخبز المرقوق.
[2]
اردأ المتاع.
[3]
أملاكها: زواجها.
الطّبقة الأولى منهم بنادق المسك ملثوثة على الرّقاع بالضّياع والعقار مسوّغة لمن حصلت في يده يقع لكلّ واحد منهم ما أدّاه إليه الاتّفاق والبخت وفرّق على الطّبقة الثّانية بدر [1] الدّنانير في كلّ بدرة عشرة آلاف وفرّق على الطّبقة الثّالثة بدر الدّراهم كذلك بعد أن أنفق على مقامة المأمون بداره أضعاف ذلك ومنه أنّ المأمون أعطاها في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وأوقد شموع العنبر في كلّ واحدة مائة من وهو رطل وثلثان [2] وبسط لها فرشا كان الحصير منها منسوجا بالذّهب مكلّلا بالدّرّ والياقوت وقال المأمون حين رآه قاتل الله أبا نواس كأنّه أبصر هذا حيث يقول في صفة الخمر:
كأنّ صغرى وكبرى من فواقعها
…
حصباء درّ على أرض من الذّهب
وأعدّ بدار الطّبخ من الحطب لليلة الوليمة نقل مائة وأربعين بغلا مدّة عام كامل ثلاث مرّات في كلّ يوم وفني الحطب لليلتين وأوقدوا الجريد يصبّون عليه الزّيت وأوعز إلى النّواتية بإحضار السّفن لإجازة الخواصّ من النّاس بدجلة من بغداد إلى قصور الملك بمدينة المأمون لحضور الوليمة فكانت الحرّاقات [3] المعدّة لذلك ثلاثين ألفا أجازوا النّاس فيها أخريات نهارهم وكثير من هذا وأمثاله وكذلك عرس المأمون بن ذي النّون بطليطلة نقله ابن سام في كتاب الذّخيرة وابن حيّان بعد أن كانوا كلّهم في الطّور الأوّل من البداوة عاجزين عن ذلك جملة لفقدان أسبابه والقائمين على صنائعه في غضاضتهم [4] وسذاجتهم يذكر أنّ الحجّاج أولم في اختتان بعض ولده فاستحضر بعض الدّهاقين [5] يسأله عن ولائم الفرس وقال أخبرني بأعظم صنيع شهدته فقال له نعم أيّها الأمير شهدت بعض مرازبة كسرى وقد صنع لأهل فارس صنيعا أحضر فيه صحاف الذّهب على أخونة الفضّة
[1] بدر: ج بدرة وهي عشرة آلاف درهم.
[2]
قوله وثلثان الّذي كتب في اللغة ان المن رطل وقيل رطلان ولم يوجد في النسخة التونسية ثلثان.
[3]
الحراقات بالفتح جمع حراقة سفينة فيها مرامي نار يرمي بها العدو 1 هـ- مختار.
[4]
نضارتهم.
[5]
اسم فارسي يطلق على رئيس القرية وأصحاب العقارات الكبيرة.