الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وبلاد فارس وأرض الهند والسّند وما وراء النّهر وبلاد الشّمال وبلاد الرّوم وذهبت أساليب اللّغة العربيّة من الشّعر والكلام إلّا قليلا يقع تعليمه صناعيّا بالقوانين المتدارسة من كلام [1] العرب وحفظ كلامهم لمن يسّره الله تعالى لذلك. وربّما بقيت اللّغة العربيّة المضريّة بمصر والشّام والأندلس وبالمغرب لبقاء الدّين طلبا لها فانحفظت ببعض الشّيء وأمّا في ممالك العراق وما وراءه فلم يبق له أثر ولا عين حتّى إنّ كتب العلوم صارت تكتب باللّسان العجميّ وكذا تدريسه في المجالس والله أعلم بالصّواب. والله مقدّر اللّيل والنّهار. صلى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدّين والحمد للَّه ربّ العالمين.
الباب الخامس من الكتاب الأول في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مسائل
الفصل الأول في حقيقة الرزق والكسب وشرحهما وان الكسب هو قيمة الأعمال البشرية
اعلم أنّ الإنسان مفتقر بالطّبع إلى ما يقوته ويمونه في حالاته وأطواره من لدن نشوءه إلى أشدّه إلى كبره «وَالله الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ 47: 38» والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان وامتنّ به عليه في غير ما آية من كتابه فقال:
[1] وفي نسخة: علوم.
«وَسَخَّرَ لَكُمْ ما في السَّماواتِ وَما في الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ 45: 13» [1] وسخّر لكم البحر وسخّر لكم الفلك وسخّر لكم الأنعام. وكثير من شواهده. ويد الإنسان مبسوطة على العالم وما فيه بما جعل الله له من الاستخلاف. وأيدي البشر منتشرة فهي مشتركة في ذلك. وما حصل عليه يد هذا امتنع عن الآخر إلّا بعوض. فالإنسان متى اقتدر على نفسه وتجاوز طور الضّعف سعى في اقتناء المكاسب لينفق ما آتاه الله منها في تحصيل حاجاته وضروراته بدفع الأعواض عنها. قال الله تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» وقد يحصل له ذلك بغير سعي كالمطر المصلح للزّراعة وأمثاله. إلّا أنّها إنّما تكون معينة ولا بدّ من سعيه معها كما يأتي فتكون له تلك المكاسب معاشا إن كانت بمقدار الضّرورة والحاجة ورياشا ومتموّلا إن زادت على ذلك. ثمّ إنّ ذلك الحاصل أو المقتنى إن عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته سمّي ذلك رزقا. قال صلى الله عليه وسلم: «إنّما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت» وإن لم ينتفع به في شيء من مصالحه ولا حاجاته فلا يسمّى بالنّسبة إلى المالك رزقا والمتملّك منه حينئذ بسعي العبد وقدرته يسمّى كسبا. وهذا مثل التّراث فإنّه يسمّى بالنّسبة إلى الهالك كسبا ولا يسمّى رزقا إذ لم يحصل به منتفع وبالنّسبة إلى الوارثين متى انتفعوا به يسمّى رزقا. هذا حقيقة مسمّى الرّزق عند أهل السّنّة وقد اشترط المعتزل في تسميته رزقا أن يكون بحيث يصحّ تملّكه وما لا يتملّك عندهم لا يسمّى رزقا وأخرجوا الغصوبات [2] والحرام كلّه عن أن يسمّى شيء منها رزقا والله تعالى يرزق الغاصب والظّالم والمؤمن والكافر برحمته وهدايته من يشاء.
ولهم في ذلك حجج ليس هذا موضع بسطها. ثمّ اعلم أنّ الكسب إنّما يكون بالسّعي في الاقتناء والقصد إلى التّحصيل فلا بدّ في الرّزق من سعي وعمل ولو في
[1] من الآية 13 من سورة الجاثية.
[2]
في النسخة الباريسية: الغصوبات. ولم ترد بلسان العرب الغصوبات. لذلك من الأصح أن يقول المغصوبة.
تناوله وابتغائه من وجوهه. قال تعالى: «فَابْتَغُوا عِنْدَ الله الرِّزْقَ 29: 17» والسّعي إليه إنّما يكون بأقدار الله تعالى وإلهامه، فالكلّ من عند الله. فلا بدّ من الأعمال الإنسانيّة في كلّ مكسوب ومتموّل. لأنّه إن كان عملا بنفسه مثل الصّنائع فظاهر وإن كان مقتنى من الحيوان والنّبات والمعدن فلا بدّ فيه من العمل الإنسانيّ كما تراه وإلّا لم يحصل ولم يقع به انتفاع. ثمّ إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنيّين من الذّهب والفضّة قيمة لكلّ متموّل، وهما الذّخيرة والقنية لأهل العالم في الغالب. وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان فإنّما هو لقصد تحصيلهما بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق الّتي هما عنها بمعزل فهما أصل المكاسب والقنية والذّخيرة. وإذا تقرّر هذا كلّه فاعلم أنّ ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتموّلات إن كان من الصّنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله وهو القصد بالقنية إذ ليس هناك إلّا العمل وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصّنائع في بعضها غيرها مثل التّجارة والحياكة معهما الخشب والغزل إلّا أنّ العمل فيهما أكثر فقيمته أكثر وإن كان من غير الصّنائع فلا بدّ من قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الّذي حصلت به إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها. وقد تكون ملاحظة العمل ظاهرة في الكثير منها فتجعل له حصّة من القيمة عظمت أو صغرت. وقد تخفى ملاحظة العمل كما في أسعار الأقوات بين النّاس فإنّ اعتبار الأعمال والنّفقات فيها ملاحظ في أسعار الحبوب كما قدّمناه لكنّه خفيّ في الأقطار الّتي علاج الفلح فيها ومؤنته يسيرة فلا يشعر به إلّا القليل من أهل الفلح. فقد تبيّن أنّ المفادات والمكتسبات كلّها أو أكثرها إنّما هي قيم الأعمال الإنسانيّة وتبيّن مسمّى الرّزق وأنّه المنتفع به. فقد بان معنى الكسب والرّزق وشرح مسمّاهما. واعلم أنّه إذا فقدت الأعمال أو قلّت بانتقاص العمران تأذّن الله برفع الكسب أترى إلى الأمصار القليلة السّاكن كيف يقلّ الرّزق والكسب فيها أو يفقد لقلّة الأعمال الإنسانيّة وكذلك الأمصار الّتي يكون عمرانها [1] أكثر يكون أهلها أوسع أحوالا
[1] وفي النسخة الباريسية: تكون اعمالها.