الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرّتبة هو الّذي يصحّح الحسبانات كلّها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقّب بنظر السّلطان أو الوزير وخطّه معتبر في صحّة الحسبان في الخارج والعطاء هذه أصول الرّتب والخطط السّلطانيّة وهي الرّتب العالية الّتي هي عامّة النّظر ومباشرة للسّلطان. وأمّا هذه الرّتبة في دولة التّرك فمتنوّعة وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو النّاظر في ديوان الجباية العامّة للدّولة وهو أعلى رتب النّاظرين في الأموال لأنّ النّظر في الأموال عندهم يتنوّع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتّساع الأموال والجبايات عن أن يستقلّ بضبطها الواحد من الرّجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعيّن للنّظر العامّ منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السّلطان وأهل عصبيّته وأرباب السّيوف في الدّولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمّى عندهم أستاذ الدّولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدّولة من الجند وأرباب السّيوف ويتبع هذه الخطّة خطط عندهم أخرى كلّها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النّظر إلى أمور خاصّة مثل ناظر الخاصّ وهو المباشر لأموال السّلطان الخاصّة به من إقطاعاته أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية ممّا ليس من أموال المسلمين العامّة وهو تحت يد الأمير أستاذ الدّار وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدّار نظر عليه ونظر الخاصّ تحت يد الخازن لأموال السّلطان من مماليكه المسمّى خازن الدّار لاختصاص وظيفتهما بمال السّلطان الخاصّ. هذا بيان هذه الخطّة بدولة التّرك بالمشرق بعد ما قدّمناه من أمرها بالمغرب والله مصرّف الأمور لا ربّ غيره.
ديوان الرسائل والكتابة
هذه الوظيفة غير ضروريّة في الملك لاستغناء كثير من الدّول عنها رأسا كما
في الدّول العريقة في البداوة الّتي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصّنائع وإنّما أكّد الحاجة إليها في الدّولة الإسلاميّة شأن اللّسان العربيّ والبلاغة في العبارة عن المقاصد فصار الكتّاب يؤدّي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللّسانيّة في الأكثر وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان للخلفاء وأمراء الصّحابة بالشّام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم فلمّا فسد اللّسان وصار صناعة اختصّ بمن يحسنه وكانت عند بني العبّاس رفيعة وكان الكاتب يصدر السّجلّات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السّلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السّلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمّى طين الختم ويطبع به على طرفي السّجلّ عند طيّه وإلصاقه ثمّ صارت السّجلّات من بعدهم تصدّر باسم السّلطان ويضع الكاتب فيها علامته أوّلا أو آخرا على حسب الاختيار في محلّها وفي لفظها ثمّ قد تنزل هذه الخطّة بارتفاع المكان عند السّلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدّولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرّئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرّئيس كما وقع آخر الدّولة الحفصيّة لمّا ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التّفويض ثمّ الاستبداد صار حكم العلامة الّتي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة إتباعا لما سلف من أمرها فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخطّ يصنعه ويتخيّر له من صيغ الإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة وقد يختصّ السّلطان لنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبدّا بأمره قائما على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته، ومن خطط الكتابة التّوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السّلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقّع على القصص المرفوعة إليه أحكامها والفصل فيها متلقّاة من السّلطان بأوجز لفظ وأبلغه فإمّا أن تصدر كذلك وإمّا أن يحذو الكاتب على مثالها في سجلّ يكون بيد صاحب القصّة ويحتاج الموقّع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها
توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرّشيد ويرمي بالقصّة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتّى قيل إنّها كانت تباع كلّ قصّة منها بدينار وهكذا كان شأن الدّول، واعلم أنّ صاحب هذه الخطّة لا بدّ من أن يتخيّر أرفع طبقات النّاس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنّه معرّض للنّظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الآداب والتّخلّق بالفضائل مع ما يضطرّ إليه في التّرسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها وقد تكون الرّتبة في بعض الدّول مستندة إلى أرباب السّيوف لما يقتضيه طبع الدّولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبيّة فيختصّ السّلطان أهل عصبيّته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلّد المال والسّيف والكتابة منهم فأمّا رتبة السّيف فتستغني عن معاناة العلم وأمّا المال والكتابة فيضطرّ إلى ذلك البلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطّبقة ما دعت إليه الضّرورة ويقلّدونه إلّا أنّه لا تكون يد آخر من أهل العصبيّة غالبة على يده ويكون نظره منصرفا عن نظره كما هو في دولة التّرك لهذا العهد بالمشرق فإنّ الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الإنشاء إلّا أنّه تحت يد أمير من أهل عصبيّة السّلطان يعرف بالدّويدار وتعويل السّلطان ووثوقه به واستنامته في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها. وأمّا الشّروط المعتبرة في صاحب هذه الرّتبة الّتي يلاحظها السّلطان في اختياره وانتقائه من أصناف النّاس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتّاب وهي: «أمّا بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفّقكم وأرشدكم فإنّ الله عز وجل جعل النّاس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرّمين أصنافا وإن كانوا في الحقيقة
سواء وصرّفهم في صنوف الصّناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتّاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرّزانة بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلّا منكم فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم الّتي بها يسمعون وأبصارهم الّتي بها يبصرون وألسنتهم الّتي بها ينطقون وأيديهم الّتي بها يبطشون فأمتعكم الله بما خصّكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النّعمة عليكم وليس أحد من أهل الصّناعات كلّها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم أيّها الكتّاب إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإنّ الكاتب يحتاج في نفسه ويحتاج منه صاحبه الّذي يثق به في مهمّات أموره أن يكون حليما في موضع الحلم فهيما في موضع الحكم مقداما في موضع الإقدام محجما في موضع الإحجام مؤثرا للعفاف والعدل والإنصاف كتوما للأسرار وفيّا عند الشّدائد عالما بما يأتي من النّوازل يضع الأمور مواضعها والطّوارق في أماكنها قد نظر في كلّ فنّ من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعدّ لكلّ أمر عدّته وعتاده ويهيّئ لكلّ وجه هيئته وعادته فتنافسوا يا معشر الكتّاب في صنوف الآداب وتفقّهوا في الدّين وابدءوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثمّ العربيّة فإنّها ثقاف ألسنتكم ثمّ أجيدوا الخطّ فإنّه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيّام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإنّ ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النّظر في الحساب فإنّه قوام كتّاب الخراج وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيّها ودنيّها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنّها مذلّة للرّقاب مفسدة للكتّاب ونزّهوا صناعتكم عن الدّناءة واربأوا بأنفسكم عن السّعاية والنّميمة وما
فيه أهل الجهالات وإيّاكم والكبر والسّخف والعظمة فإنّها عداوة مجتلبة من غير إحنة وتحابّوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالّذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنّبل من سلفكم وإن نبا الزّمان برجل منكم فاعطفوا عليه وآسوه حتّى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره وإن أقعد أحدا منكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظّموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرّجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه فإن عرضت في الشّغل محمدة فلا يصفها إلّا إلى صاحبه وإن عرضت مذمّة فليحملها هو من دونه وليحذر السّقطة والزّلّة والملل عند تغيّر الحال فإنّ العيب إليكم معشر الكتّاب أسرع منه إلى القرّاء وهو لكم أفسد منه لهم فقد علمتم أنّ الرّجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقّه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سرّه وتدبير أمره ما هو جزاء لحقّه ويصدّق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه فاستشعروا ذلك وفّقكم الله من أنفسكم في حالة الرّخاء والشّدّة والحرمان والمؤاساة والإحسان والسّرّاء والضّرّاء فنعمت السّيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصّناعة الشّريفة وإذا ولّي الرّجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن على الضّعيف رفيقا وللمظلوم منصفا «فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أرفقهم بعياله» ثمّ ليكن بالعدل حاكما وللأشراف مكرما وللفيء موفّرا وللبلاد عامرا وللرّعيّة متألّفا وعن أذاهم متخلّفا وليكن في مجلسه متواضعا حليما وفي سجلّات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقا وإذا صحب أحدكم رجلا فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عمّا يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة وقد علمتم أنّ سائس البهيمة إذا كان بصيرا بسياستها التمس معرفة أخلاقها فإن كانت رموحا [1] لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوبا [2] اتّقاها من بين يديها وإن خاف
[1] كثيرة الرفس.
[2]
كثيرة رفع اليدين.
منها شرودا توقّاها من ناحية رأسها وإن كانت حرونا قمع برفق هواها في طرقها [1] فإن استمرّت عطفها يسيرا فيسلس له قيادها وفي هذا الوصف من السّياسة دلائل لمن ساس النّاس وعاملهم وجرّبهم وداخلهم والكاتب بفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يحاوره من النّاس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرّفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة الّتي لا تحير جوابا ولا تعرف صوابا ولا تفهم خطابا إلّا بقدر ما يصيّرها إليه صاحبها الرّاكب عليها ألا فارفقوا رحمكم الله في النّظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الرّويّة والفكر تأمنوا بإذن الله ممّن صحبتموه النّبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المؤاخاة والشّفقة إن شاء الله. ولا يجاوزنّ الرّجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقّه فإنّكم مع ما فضّلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التّقصير وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التّضييع والتّبذير واستعينوا على عفافكم بالقصد في كلّ ما ذكرته لكم وقصصته عليكم واحذروا متالف السّرف وسوء عاقبة التّرف فإنّهما يعقبان الفقر ويذلّان الرّقاب ويفضحان أهلهما وسيّما الكتّاب وأرباب الآداب وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلّوا على مؤتنف [2] أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم ثمّ اسلكوا من مسالك التّدبير أوضحها محجّة وأصدقها حجّة وأحمدها عاقبة واعلموا أنّ للتّدبير آفة متلفة وهو الوصف الشّاغل لصاحبه عن إنقاذ علمه ورويّته فليقصد الرّجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإنّ ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للتّشاغل عن إكثاره وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضرّ ببدنه وعقله وأدبه فإنّه إن ظنّ منكم ظانّ أو قال قائل إنّ الّذي برز من جميل صنعته وقوّة حركته إنّما هو
[1] بمعنى الضرب.
[2]
الجديد الّذي لم تسبق فيه تجربة.