الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة في فضل علم التّاريخ وتحقيق مذاهبه والالماع لما يعرض للمؤرخين من المغالط وذكر شيء من أسبابها
اعلم أنّ فنّ التّأريخ فنّ عزيز المذهب جمّ الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا [1] على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم. والأنبياء في سيرهم. والملوك في دولهم وسياستهم. حتّى تتمّ فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدّين والدّنيا فهو محتاج إلى مآخذ متعدّدة ومعارف متنوّعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحقّ وينكّبان به عن المزلّات والمغالط لأنّ الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرّد النّقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السّياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنسانيّ ولا قيس الغائب منها بالشّاهد والحاضر بالذّاهب فربّما لم يؤمن فيها من العثور ومزلّة القدم والحيد عن جادّة الصّدق وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النّظر والبصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط ولا سيّما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر إذا عرضت في الحكايات إذ هي مظنّة الكذب ومطيّة الهذر ولا بدّ من ردّها إلى الأصول وعرضها على القواعد.
[1] بمعنى يطلعنا، وهي لغة ضعيفة.
وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرّخين في جيوش بني إسرائيل بأنّ موسى عليه السلام أحصاهم في التّيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السّلاح خاصّة من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستّمائة ألف أو يزيدون ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشّام واتّساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش لكلّ مملكة من الممالك حصّة من الحامية تتّسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عمّا فوقها تشهد بذلك الغوائد المعروفة والأحوال المألوفة ثمّ إنّ مثل هذه الجيوش البالغة إلى مثل هذا العدد يبعد أن يقع بينها زحف أو قتال لضيق ساحة الأرض عنها وبعدها إذا اصطفّت عن مدى البصر مرّتين أو ثلاثا أو أزيد فكيف يقتتل هذان الفريقان أو تكون غلبة أحد الصّفّين وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد لذلك فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء.
ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من ملك بني إسرائيل بكثير يشهد لذلك ما كان من غلب بخت نصّر لهم والتهامه بلادهم واستيلائه على أمرهم وتخريب بيت المقدس قاعدة ملّتهم وسلطانهم وهو من بعض عمّال مملكة فارس يقال إنّه كان مرزبان المغرب من تخومها وكانت ممالكهم بالعراقين وخراسان وما وراء النّهر والأبواب أوسع من ممالك بني إسرائيل بكثير ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قطّ مثل هذا العدد ولا قريبا منه وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسيّة مائة وعشرين ألفا كلّهم متبوع على ما نقله سيف [1] قال وكانوا في أتباعهم أكثر من مائتي ألف وعن عائشة والزّهريّ فإنّ جموع رستم الّذين زحف بهم سعد بالقادسيّة إنّما كانوا ستّين ألفا كلّهم متبوع وأيضا فلو بلغ بنو إسرائيل مثل هذا العدد لاتّسع نطاق ملكهم وانفسح مدى دولتهم فإنّ العمالات والممالك في الدّول على نسبة الحامية والقبيل القائمين بها في قلّتها وكثرتها حسبما نبين في فصل الممالك من الكتاب الأوّل والقوم لم تتّسع ممالكهم إلى غير الأردنّ وفلسطين من الشّام وبلاد يثرب وخيبر من الحجاز على ما هو المعروف.
[1] هو سيف بن عمر الأسدي، من جامعي تواريخ الأمم والدول.
وأيضا فالّذين بين موسى وإسرائيل إنّما هو أربعة آباء على ما ذكره المحقّقون فإنّه موسى بن عمران بن يصهر بن قاهت بفتح الهاء وكسرها ابن لاوي بكسر الواو وفتحها ابن يعقوب وهو إسرائيل الله هكذا نسبه في التّوراة والمدّة بينهما على ما نقله المسعوديّ قال دخل إسرائيل مصر مع ولده الأسباط وأولادهم حين أتوا إلى يوسف سبعين نفسا وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى عليه السلام إلى التّيه مائتين وعشرين سنة تتداولهم ملوك القبط من الفراعنة ويبعد أن يتشعّب النّسل في أربعة أجيال إلى مثل هذا العدد وإن زعموا أنّ عدد تلك الجيوش إنّما كان في زمن سليمان ومن بعده فبعيد أيضا إذ ليس بين سليمان وإسرائيل إلّا أحد عشر أبا فإنّه سليمان بن داود بن يشّا بن عوفيذ (ويقال ابن عوفذ) ابن باعز (ويقال بوعز) بن سلمون بن نحشون بن عمّينوذب (ويقال حمّيناذاب) بن رمّ بن حصرون (ويقال حسرون) بن بارس (ويقال ببرس) بن يهوذا بن يعقوب ولا يتشعّب النّسل في أحد عشر من الولد إلى مثل هذا العدد الّذي زعموه اللَّهمّ إلى المائتين والآلاف فربّما يكون وأمّا أن يتجاوز إلى ما بعدهما من عقود الأعداد فبعيد واعتبر ذلك في الحاضر المشاهد والقريب المعروف تجد زعمهم باطلا ونقلهم كاذبا.
والّذي ثبت في الإسرائيليّات أنّ جنود سليمان كانت اثني عشر ألفا خاصّة وأنّ مقرّباته [1] كانت ألفا وأربعمائة فرس مرتبطة على أبوابه هذا هو الصّحيح من أخبارهم ولا يلتفت إلى خرافات العامّة منهم وفي أيّام سليمان عليه السلام وملكه كان عنفوان دولتهم واتّساع ملكهم هذا وقد نجد الكافّة من أهل العصر إذا أفاضوا في الحديث عن عساكر الدّول الّتي لعهدهم أو قريبا منه وتفاوضوا في الأخبار عن جيوش المسلمين أو النّصارى أو أخذوا في إحصاء أموال الجبايات وخراج السّلطان ونفقات المترفين وبضائع الأغنياء الموسرين توغّلوا في العدد
[1] المقرّبات، جمع مقربة: وهي من الخيل التي يقرّب معلفها ومربطها لكرامتها.
وتجاوزوا حدود العوائد وطاوعوا وساوس الإعراب فإذا استكشف أصحاب الدّواوين عن عساكرهم واستنبطت أحوال أهل الثّروة في بضائعهم وفوائدهم واستجليت عوائد المترفين في نفقاتهم لم تجد معشار ما يعدّونه وما ذلك إلّا لولوع النّفس بالغرائب وسهولة التّجاوز على اللسان والغفلة على المتعقّب والمنتقد حتّى لا يحاسب نفسه على خطإ ولا عمد ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه ويتّخذ آيات الله هزءا [1] ويشتري لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله وحسبك بها صفقة خاسرة.
ومن الأخبار الواهية للمؤرّخين ما ينقلونه كافّة في أخبار التّبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنّهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى إفريقية [2] والبربر من بلاد المغرب وأنّ أفريقش بن قيس بن صيفيّ من أعاظم ملوكهم الأول وكان لعهد موسى عليه السلام أو قبله بقليل غزا إفريقية وأثخن في البربر وأنّه الّذي سمّاهم بهذا الاسم حين سمع رطانتهم وقال ما هذه البربرة فأخذ هذا الاسم عنه ودعوا به من حينئذ وأنّه لمّا انصرف من المغرب حجز هنالك قبائل من حمير فأقاموا بها واختلطوا بأهلها ومنهم صنهاجة [3] وكتامة ومن هذا ذهب الطّبريّ والجرجانيّ والمسعوديّ وابن الكلبيّ والبيليّ إلى أنّ صنهاجة وكتامة من حمير وتأباه نسابة البربر وهو الصّحيح وذكر المسعوديّ أيضا أنّ ذا الأذعار من ملوكهم قبل أفريقش وكان على عهد سليمان عليه السلام غزا المغرب ودوّخه وكذلك ذكر مثله عن ياسر ابنه من بعده وأنّه بلغ وادي الرّمل في بلاد المغرب ولم يجد فيه مسلكا لكثرة الرّمل فرجع وكذلك يقولون في تبّع الآخر وهو أسعد أبو كرب وكان على عهد يستأسف من ملوك الفرس الكيانيّة أنّه ملك الموصل وأذربيجان
[1] وفي بعض النسخ هزوا.
[2]
كذا المشهور بدون تشديد الباء، وقد تشدّد الياء:(إفريقية) في معجم البلدان لياقوت الحموي.
[3]
صنهاجة بفتح الصاد كما هي معروفة في المغرب، وبكسر الصاد كما وردت في ألف.
ولقي التّرك فهزمهم وأثخن ثمّ غزاهم ثانية وثالثة كذلك وأنّه بعد ذلك أغزى ثلاثة من بنيه بلاد فارس وإلى بلاد الصّغد من بلاد أمم التّرك وراء النّهر وإلى بلاد الرّوم فملك الأوّل البلاد إلى سمرقند وقطع المفازة إلى الصين فوجد أخاه الثّاني الّذي غزا إلى سمرقند قد سبقه إليها فأثخنا في بلاد الصّين ورجعا جميعا بالغنائم وتركوا ببلاد الصّين قبائل من حمير فهم بها إلى هذا العهد وبلغ الثّالث إلى قسطنطنيّة فدرسها [1] ودوّخ بلاد الرّوم ورجع.
وهذه الأخبار كلّها بعيدة عن الصّحّة عريقة في الوهم والغلط وأشبه بأحاديث القصص الموضوعة. وذلك أنّ ملك التّبابعة إنّما كان بجزيرة العرب وقرارهم وكرسيّهم بصنعاء اليمن. وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها فبحر الهند من الجنوب وبحر فارس الهابط منه إلى البصرة من المشرق وبحر السّويس الهابط منه إلى السّويس من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصوّر الجغرافيا فلا يجد السّالكون من اليمن إلى المغرب طريقا من غير السّويس والمسلك هناك ما بين بحر السّويس والبحر الشّاميّ قدر مرحلتين فما دونهما ويبعد أن يمرّ بهذا المسلك ملك عظيم في عساكر موفورة من غير أن يصير من أعماله هذه ممتنع في العادة. وقد كان بتلك الأعمال العمالقة وكنعان بالشّام والقبط بمصر ثمّ ملك العمالقة مصر وملك بنو إسرائيل الشّام ولم ينقل قطّ أنّ التّبابعة حاربوا أحدا من هؤلاء الأمم ولا ملكوا شيئا من تلك الأعمال وأيضا فالشّقّة من البحر إلى المغرب بعيدة والأزودة والعلوفة للعساكر كثيرة فإذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزّرع والنّعم وانتهاب البلاد فيما يمرّون عليه ولا يكفي ذلك للأزودة وللعلوفة عادة وإن نقلوا كفايتهم من ذلك من أعمالهم فلا تفي لهم الرّواحل بنقله فلا بدّ وأن يمرّوا في طريقهم كلّها بأعمال قد ملكوها ودوّخوها لتكون الميرة منها وإن قلنا إنّ تلك العساكر تمرّ بهؤلاء الأمم من غير أن
[1] درس الأثر: بمعنى محاه (لسان العرب) .