الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مضر وحمير
وذلك أنّا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدّلالة على سنن اللّسان المضريّ ولم يفقد منها إلّا دلالة الحركات على تعيّن الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتّقديم والتّأخير وبقرائن تدلّ على خصوصيّات المقاصد. إلّا أنّ البيان والبلاغة في اللّسان المضريّ أكثر وأعرق، لأنّ الألفاظ بأعيانها دالّة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمّى بساط الحال محتاجا إلى ما يدلّ عليه. وكلّ معنى لا بدّ وأن تكتنفه أحوال تخصّه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنّها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدلّ عليها بألفاظ تخصّها بالوضع. وأمّا في اللّسان العربيّ فإنّما يدلّ عليها بأحوال وكيفيّات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب. وقد يدلّ عليها بالحروف غير المستقلّة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللّسان العربيّ بحسب تفاوت الدّلالة على تلك الكيفيّات كما قدّمناه فكان الكلام العربيّ لذلك أوجز وأقلّ ألفاظا وعبارة من جميع الألسن. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:«أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النّحاة: «إنّي أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم والمعنى واحد» .
فقال له: إنّ معانيها مختلفة، فالأوّل: لإفادة الخالي الذّهن من قيام زيد، والثّاني: لمن سمعه فتردّد فيه، والثّالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدّلالة باختلاف الأحوال. وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتنّ في ذلك إلى خرفشة النّحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التّحقيق حيث يزعمون أنّ البلاغة لهذا العهد ذهبت وأنّ
اللّسان العربيّ فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الّذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسّها التّشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلّا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتّعبير عن المقاصد والتّعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللّسان وفنونه من النّظم والنّثر موجودة في مخاطباتهم وفهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشّاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذّوق الصّحيح والطّبع السّليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللّسان المدوّن إلّا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الّذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعا معروفا وهو الإعراب. وهو بعض من أحكام اللّسان. وإنّما وقعت العناية بلسان مضر لمّا فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشّام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصّورة الّتي كانت أوّلا فانقلب لغة أخرى. وكان القرآن منزّلا به والحديث النّبويّ منقولا بلغته وهما أصلا الدّين والملّة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللّسان الّذي نزّلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانينه. وصار علما ذا فصول وأبواب ومقدّمات ومسائل سمّاه أهله بعلم النّحو وصناعة العربيّة فأصبح فنّا محفوظا وعلما مكتوبا وسلّما إلى فهم كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وافيا [1] . ولعلّنا لو اعتنينا بهذا اللّسان العربيّ لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابيّة في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه تكون بها قوانين تخصّها. ولعلّها تكون في أواخره على غير المنهاج الأوّل في لغة مضر فليست اللّغات وملكاتها مجّانا. ولقد كان اللّسان المضريّ مع اللّسان الحميريّ بهذه المثابة وتغيّر عند مضر كثير من موضوعات اللّسان الحميريّ وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنّها لغة واحدة ويلتمس إجراء اللّغة الحميريّة على
[1] وفي نسخة أخرى: راقيا.
مقاييس اللّغة المضريّة وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللّسان الحميريّ أنّه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلّا أنّ العناية بلسان مضر من أجل الشّريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه. وممّا وقع في لغة هذا الجيل العربيّ لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النّطق بالقاف فإنّهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربيّة أنّه من أقصى اللّسان وما فوقه من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسّطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتّى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال مختصّا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم.
حتّى إنّ من يريد التّقرّب [1] والانتساب إلى الجيل والدّخول فيه يحاكيهم في النّطق بها. وعندهم أنّه إنّما يتميّز العربيّ الصّريح من الدّخيل في العروبيّة والحضريّ بالنّطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنّها لغة مضر بعينها فإنّ هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقا وغربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل معهم من بني كهلان في النّطق بهذه القاف أسوة. وهذه اللّغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنّها لغة مضر الأوّلين ولعلّها لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعينها قد ادّعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أنّ من قرأ في أمّ القرآن «اهدنا إلى الصراط
[1] وفي نسخة أخرى: التعرب.
المستقيم» بغير القاف الّتي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاته ولم أدر من أين جاء هذا؟ فإنّ لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها وإنّما تناقلوها من لدن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لمّا نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلّا أنّهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجّح فيما يوجد من اللّغة لديهم أنّه من لغة سلفهم. هذا مع اتّفاق أهل الجيل كلّهم شرقا وغربا في النّطق بها وأنّها الخاصيّة الّتي يتميّز بها العربيّ من الهجين والحضريّ. والظّاهر أنّ هذه القاف الّتي ينطق بها أهل الجيل العربيّ البدويّ هو من مخرج القاف عند أوّلهم من أهل اللّغة، وأنّ مخرج القاف متّسع، فأوّله من أعلى الحنك وآخره ممّا يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها ممّا يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدويّ. وبهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أمّ القرآن، فإنّ فقهاء الأمصار كلّهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إنّ الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدويّ لأنّ تواترها فيهم كما قدّمناه، شاهد بأنّها لغة الجيل الأوّل من سلفهم، وأنّها لغة النّبيّ صلى الله عليه وسلم. ويرجّح ذلك أيضا إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثمّ إنّ أهل العربيّة قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وهي الّتي ينطق بها أهل الجيل البدويّ من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسّطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنّها حرف مستقلّ، وهو بعيد. والظاهر أنّها من آخر مخرج القاف لاتّساعه كما قلناه. ثمّ إنّهم يصرّحون باستهجانه واستقباحه كأنّهم لم يصحّ عندهم أنّها لغة الجيل الأوّل. وفيما ذكرناه من اتّصال نطقهم بها، لأنّهم إنّما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل، وأنّها شعارهم الخاصّ بهم، دليل على أنّها لغة ذلك الجيل الأوّل، ولغة النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم ذلك كلّه. وقد يزعم زاعم أنّ