الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث والعشرون في علم المنطق
وهو قوانين يعرف بها الصّحيح من الفاسد في الحدود المعرّفة [1] للماهيّات والحجج المفيدة للتّصديقات وذلك لأنّ الأصل في الإدراك إنّما هو المحسوسات بالحواسّ الخمس. وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من النّاطق وغيره وإنّما يتميّز الإنسان عنها بإدراك الكلّيّات وهي مجرّدة من المحسوسات. وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتّفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلّيّ. ثمّ ينظر الذّهن بين تلك الأشخاص المتّفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضا عليهما باعتبار ما اتّفقا فيه. ولا يزال يرتقي في التّجريد إلى الكلّ الّذي لا يجد كلّيّا آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطا. وهذا مثل ما يجرّد من أشخاص الإنسان صورة النّوع المنطبقة عليها. ثمّ ينظر بينه وبين الحيوان ويجرّد صورة الجنس المنطبقة عليهما. ثمّ ينظر بينهما وبين النّبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلّيّا يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التّجريد. ثمّ إنّ الإنسان لمّا خلق الله له الفكر الّذي به يدرك العلوم والصّنائع وكان العلم: إمّا تصوّرا للماهيّات ويعنى به إدراك ساذج من غير حكم معه وإمّا تصديقا أي حكما بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إمّا بأن تجمع تلك الكلّيّات بعضها إلى بعض على جهة التّأليف فتحصل صورة في الذّهن كلّيّة منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصّورة الذّهنيّة مفيدة لمعرفة ماهيّة تلك الأشخاص وإمّا بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقا. وغايته في الحقيقة راجعة إلى التّصوّر لأنّ فائدة ذلك إذا حصل إنّما هي معرفة حقائق
[1] وفي نسخة أخرى: المعروفة.
الأشياء الّتي هي مقتضى العلم الحكميّ. وهذا السّعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطّريق الّذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلميّة ليتميّز الصّحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق. وتكلّم فيه المتقدّمون أوّل ما تكلّموا به جملا جملا ومفترقا مفترقا. ولم تهذّب طرقه ولم تجمع مسائله حتّى ظهر في يونان أرسطو فهذّب مباحثه [1] ورتّب مسائله وفصوله وجعله أوّل العلوم الحكميّة وفاتحتها. ولذلك يسمّى بالمعلّم الأوّل وكتابه المخصوص بالمنطق يسمّى النّصّ وهو يشتمل على ثمانية كتب أربعة منها في صورة القياس وأربعة [2] في مادّته. وذلك أنّ المطالب التّصديقيّة على أنحاء. فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظّنّ وهو على مراتب فينظر في القياس من حيث المطلوب الّذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدّماته بذلك الاعتبار ومن أيّ جنس يكون من العلم أو من الظّنّ. وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصّة. ويقال للنّظر الأوّل إنّه من حيث المادّة ونعني به المادّة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظنّ ويقال للنّظر الثّاني إنّه من حيث الصّورة وإنتاج القياس على الإطلاق فكانت لذلك كتب المنطق ثمانيّة:
الأوّل في الأجناس العالية الّتي ينتهي إليها تجريد المحسوسات وهي الّتي ليس فوقها جنس ويسمّى كتاب المقولات. والثّاني في القضايا التّصديقيّة وأصنافها ويسمّى كتاب العبارة. والثّالث في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمّى كتاب القياس وهذا آخر النّظر من حيث الصّورة. ثمّ الرّابع كتاب البرهان وهو النّظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدّماته يقينيّة. ويختصّ بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتيّة وأوّليّة وغير ذلك. وفي هذا الكتاب الكلام في المعرّفات والحدود إذ المطلوب فيها إنّما هو اليقين لوجوب
[1] وفي النسخة الباريسية: مناحيه.
[2]
وفي النسخة الباريسية: وخمسة.
المطابقة بين الحدّ والمحدود لا تحتمل غيرها فلذلك اختصّت عند المتقدّمين بهذا الكتاب. والخامس: كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختصّ أيضا من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى من حيث إفادته لهذا الغرض وهي مذكورة هناك. وفي هذا الكتاب يذكر المواضع الّتي يستنبط منها صاحب القياس قياسه وفيه عكوس القضايا. والسّادس: كتاب السّفسطة وهو القياس الّذي يفيد خلاف الحقّ ويغالط به المناظر صاحبه وهو فاسد وهذا إنّما كتب ليعرف به القياس المغالطيّ فيحذر منه. والسّابع: كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات. والثّامن:
كتاب الشّعر وهو القياس الّذي يفيد التّمثيل والتّشبيه خاصّة للإقبال على الشّيء أو النّفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التّخيّليّة. هذه هي كتب المنطق الثّمانية عند المتقدّمين. ثمّ إنّ حكماء اليونانيّين بعد أن تهذّبت الصّناعة ورتّبت رأوا أنّه لا بدّ من الكلام في الكلّيّات الخمس المفيدة للتّصوّر المطابق للماهيّات في الخارج، أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاصّ والعرض العام، فاستدركوا فيها مقالة تختصّ بها مقدّمة بين يدي الفنّ فصارت تسعا وترجمت كلّها في الملّة الإسلاميّة. وكتبها وتداولها [1] فلاسفة الإسلام بالشّرح والتّلخيص كما فعله الفارابيّ وابن سينا ثمّ ابن رشد من فلاسفة الأندلس. ولابن سينا كتاب الشّفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السّبعة كلّها. ثمّ جاء المتأخّرون فغيّروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنّظر في الكلّيّات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرّسوم نقلوها من كتاب البرهان. وحذفوا كتاب المقولات لأنّ نظر المنطقيّ فيه بالعرض لا بالذّات. وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس [2] . وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدّمين لكنّه من
[1] وفي نسخة أخرى: تناولها.
[2]
فن الموضوعات المنطقية.
توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه ثمّ تكلّموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادّة وحدّقوا النّظر فيه بحسب المادّة وهي الكتب الخمسة: البرهان والجدل والخطابة والشّعر والسّفسطة. وربّما يلمّ بعضهم باليسير منها إلماما وأغفلوها كأن لم تكن هي المهمّ المعتمد في الفنّ. ثمّ تكلّموا فيما وضعوه من ذلك كلاما مستبحرا ونظروا فيه من حيث إنّه فنّ برأسه لا من حيث إنّه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتّسع. وأوّل من فعل ذلك الإمام فخر الدّين بن الخطيب ومن بعده أفضل الدّين الخونجيّ وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد. وله في هذه الصّناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل واختصر فيها مختصر الموجز وهو حسن في التّعليم ثمّ مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفنّ وأصوله فتداوله المتعلّمون لهذا العهد فينتفعون به. وهجرت كتب المتقدّمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه.
والله الهادي للصّواب.
اعلم أنّ هذا الفنّ قد اشتدّ النكير على انتحاله من متقدّمي السلف والمتكلّمين، وبالغوا في الطعن عليه والتّحذير منه، وحظّروا تعلّمه وتعليمه.
وجاء المتأخّرون من بعدهم من لدن الغزاليّ والإمام ابن الخطيب، فسامحوا في ذلك بعض الشّيء. وأكبّ النّاس على انتحاله من يومئذ إلّا قليلا، يجنحون فيه إلى رأي المتقدّمين، فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره. فلنبيّن لك نكتة القبول والردّ في ذلك، لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم، وذلك أنّ المتكلّمين لمّا وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانيّة بالحجج العقليّة، كانت طريقتهم في ذلك بأدلّة خاصّة وذكروها في كتبهم كالدليل على حدث العالم بإثبات الأعراض وحدوثها، وامتناع خلوّ الأجسام عنها، وما لا يخلو عن الحوادث حادث.
وكإثبات التوحيد بدليل التمانع، وإثبات الصفات القديمة بالجوامع الأربعة إلحاقا للغائب بالشاهد، وغير ذلك من أدلّتهم المذكورة في كتبهم. ثمّ مرّروا تلك
الادلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدّمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الأجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقليّ للماهيّات. وأنّ العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود، لا موجودة ولا معدمة وغير ذلك من قواعدهم الّتي بنوا عليها أدلّتهم الخاصّة. ثمّ ذهب الشيخ أبو الحسن، والقاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق إلّا أنّ أدلّة العقائد منعكسة بمعنى أنّها إذا بطلت بطل مدلولها. ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنّها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها. وإذا تأمّلت المنطق وجدته كلّه يدور على التركيب العقليّ، وإثبات الكلّي الطّبيعيّ في الخارج لينطبق عليه الكلّيّ الذهنيّ المنقسم إلى الكلّيّات الخمس، الّتي هي الجنس والنّوع والفصل والخاصّة والعرض العامّ، وهذا باطل عند المتكلّمين. والكلّي والذاتي عندهم إنّما اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه، أو حال عند من يقول بها فتبطل الكلّيّات الخمس والتّعريف المبنيّ عليها. والمقولات العشر، ويبطل العرض الذاتيّ، فتبطل ببطلانه القضايا الضروريّة الذاتيّة المشروطة في البرهان وتبطل المواضع الّتي هي لباب كتاب الجدل. وهي الّتي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطّرفين في القياس، ولا يبقى إلّا القياس الصّوريّ، ومن التعريفات المساوئ في الصادقيّة على أفراد المحمود، لا يكون أعمّ منها، فيدخل غيرها، ولا أخصّ فيخرج بعضها، وهو الّذي يعبّر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلّمون بالطرد والعكس، وتنهدم أركان المنطق جملة. وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق أبطلنا كثيرا من مقدّمات المتكلّمين فيؤدّي إلى إبطال أدلّتهم على العقائد كما مرّ. فلهذا بالغ المتقدّمون من المتكلّمين في النكير على انتحال المنطق وعدّه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الّذي يبطل. والمتأخّرون من لدن الغزاليّ لما أنكروا انعكاس الأدلّة، ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله، وصحّ عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقليّ ووجود الماهيات الطبيعيّة وكلّياتها