الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتّباع صلاح أخراه. فهو منكّر في ذلك كلّه دائما لا يفتر عن الفكر فيه طرفة عين بل اختلاج الفكر أسرع من لمح البصر. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدّمناه من الصّنائع. ثمّ لأجل هذا الفكر وما جبل عليه الإنسان بل الحيوان من تحصيل ما تستدعيه الطّباع فيكون الفكر راغبا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفة أو إدراك أو أخذه ممّن تقدّمه من الأنبياء الّذين يبلّغونه لمن تلقّاه فيلقّن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه. ثمّ إنّ فكره ونظره يتوجّه إلى واحد واحد من الحقائق وينظر ما يعرض له لذاته واحدا بعد آخر ويتمرّن على ذلك حتّى يصير إلحاق العوارض بتلك الحقيقة ملكة له فيكون حينئذ علمه بما يعرض لتلك الحقيقة علما مخصوصا. وتتشوّف نفوس أهل الجيل النّاشئ إلى تحصيل ذلك فيفزعون إلى أهل معرفته ويجيء التّعليم من هذا. فقد تبيّن بذلك أنّ العلم والتّعليم طبيعيّ في البشر. والله أعلم.
الفصل الثاني في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع
وذلك أنّ الحذق في العلم والتّفنّن فيه والاستيلاء عليه إنّما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده والوقوف على مسائله واستنباط فروعه من أصوله.
وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفنّ المتناول حاصلا. وهذه الملكة هي في غير الفهم والوعي. لأنّا نجد فهم المسألة الواحدة من الفنّ الواحد ووعيها مشتركا بين من شدا في ذلك الفنّ وبين من هو مبتدئ فيه وبين العاميّ الّذي لم يعرف [1] علما وبين العالم النّحرير. والملكة إنّما هي للعالم أو الشّادي في الفنون دون من سواهما فدلّ على أنّ هذه الملكة غير الفهم والوعي. والملكات
[1] وفي نسخة أخرى: يحصّل.
كلّها جسمانيّة سواء كانت في البدن أو في الدّماغ من الفكر وغيره كالحساب.
والجسمانيّات كلّها محسوسة فتفتقر إلى التّعليم. ولهذا كان السّند في التّعليم في كلّ علم أو صناعة يفتقر إلى مشاهير المعلّمين فيها معتبرا عند كلّ أهل أفق وجيل.
ويدلّ أيضا على أنّ تعليم العلم صناعة اختلاف الاصطلاحات فيه. فلكلّ إمام من الأئمّة المشاهير اصطلاح في التّعليم يختصّ به شأن الصّنائع كلّها فدلّ على أنّ ذلك الاصطلاح ليس من العلم، وإذ لو كان من العلم لكان واحدا عند جميعهم. ألا ترى إلى علم الكلام كيف تخالف في تعليمه اصطلاح المتقدّمين والمتأخّرين وكذا أصول الفقه وكذا العربيّة وكذا كلّ علم يتوجّه [1] إلى مطالعته تجد الاصطلاحات في تعليمه متخالفة فدلّ على أنّها صناعات في التّعليم. والعلم واحد في نفسه. وإذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ سند تعليم العلم لهذا العهد قد كاد ينقطع عن أهل المغرب باختلال عمرانه وتناقص الدّول فيه. وما يحدث عن ذلك من نقص الصّنائع وفقدانها كما مرّ. وذلك أنّ القيروان وقرطبة كانتا حاضرتي المغرب والأندلس واستبحر عمرانهما وكان فيهما للعلوم والصّنائع أسواق نافقة وبحور زاخرة. ورسخ فيهما التّعليم لامتداد عصورهما وما كان فيهما من الحضارة. فلمّا خربتا انقطع التّعليم من [2] المغرب إلّا قليلا كان في دولة الموحّدين بمراكش مستفادا منها.
ولم ترسخ الحضارة بمراكش لبداوة الدّولة الموحّديّة في أوّلها وقرب عهد انقراضها بمبدئها فلم تتّصل أحوال الحضارة فيها إلّا في الأقلّ. وبعد انقراض الدّولة بمرّاكش ارتحل إلى المشرق من إفريقية القاضي أبو القاسم بن زيتون لعهد أواسط المائة السّابعة فأدرك تلميذ الإمام ابن الخطيب فأخذ عنهم ولقّن تعليمهم.
وحذق في العقليّات والنّقليّات ورجع إلى تونس بعلم كثير وتعليم حسن. وجاء على أثره من المشرق أبو عبد الله بن شعيب الدّكّاليّ. كان ارتحل إليه من المغرب فأخذ عن مشيخة مصر ورجع إلى تونس واستقرّ بها وكان تعليمه مفيدا فأخذ عنهما
[1] وفي النسخة الباريسية: يحتاج.
[2]
وفي النسخة الباريسية: عن المغرب.
أهل تونس. واتّصل سند تعليمهما في تلاميذهما جيلا بعد جيل حتّى انتهى إلى القاضي محمّد بن عبد السّلام. شارح بن الحاجب وتلميذه وانتقل من تونس إلى تلمسان في ابن الإمام وتلميذه. فإنّه قرأ مع ابن عبد السّلام على مشيخة واحدة في مجالس بأعيانها وتلميذ ابن عبد السّلام بتونس وابن الإمام بتلمسان لهذا العهد إلّا أنّهم من القلّة بحيث يخشى انقطاع سندهم. ثمّ ارتحل من زواوة في آخر المائة السّابعة أبو عليّ ناصر الدّين المشداليّ وأدرك تلميذ أبي عمرو بن الحاجب وأخذ عنهم ولقّن تعليمهم. وقرأ مع شهاب الدّين القرافيّ في مجالس واحدة وحذق في العقليّات والنّقليّات. ورجع إلى المغرب بعلم كثير وتعليم مفيد. ونزل ببجاية واتّصل سند تعليمه في طلبتها. وربما انتقل إلى تلمسان عمران المشداليّ [1] من تلميذه وأوطنها وبثّ طريقته فيها. وتلميذه لهذا العهد ببجاية وتلمسان قليل أو أقلّ من القليل. وبقيت فاس وسائر أقطار المغرب خلوا من حسن التّعليم من لدن انقراض تعليم قرطبة والقيروان ولم يتّصل سند التّعليم فيهم فعسر عليهم حصول الملكة والحذق في العلوم. وأيسر طرق هذه الملكة فتق [2] اللّسان بالمحاورة والمناظرة في المسائل العلميّة فهو الّذي يقرّب شأنها ويحصّل مرامها. فتجد طالب العلم منهم بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلميّة سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة. فلا يحصلون على طائل من ملكة التّصرّف في العلم والتّعليم. ثمّ بعد تحصيل من يرى منهم أنّه قد حصّل تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علّم وما أتاهم القصور إلّا من قبل التّعليم وانقطاع سنده. وإلّا فحفظهم أبلغ من حفظ سواهم لشدّة عنايتهم به، وظنّهم أنّه المقصود من الملكة العلميّة وليس كذلك. وممّا يشهد بذلك في المغرب أنّ المدّة المعيّنة لسكنى طلبة العلم بالمدارس عندهم ستّ عشرة سنة وهي بتونس خمس سنين. وهذه المدّة بالمدارس على المتعارف
[1] وفي نسخة أخرى: المشدّالي وهو تحريف والمشدالي نسبة إلى مشدالة من قبائل زواوة في المغرب.
[2]
وفي نسخة أخرى: قوّة.
هي أقلّ ما يتأتى فيها لطالب العلم حصول مبتغاه من الملكة العلميّة أو اليأس من تحصيلها فطال أمدها في المغرب لهذه المدّة لأجل عسرها من قلّة الجودة في التّعليم خاصّة لا ممّا سوى ذلك. وأمّا أهل الأندلس فذهب رسم التّعليم من بينهم وذهبت عنايتهم بالعلوم لتناقص عمران المسلمين بها منذ مئين من السّنين. ولم يبق من رسم العلم فيهم إلّا فنّ العربيّة والأدب. اقتصروا عليه وانحفظ سند تعليمه بينهم فانحفظ بحفظه. وأمّا الفقه بينهم فرسم خلو وأثر بعد عين. وأمّا العقليّات فلا أثر ولا عين. وما ذاك إلّا لانقطاع سند التّعليم فيها بتناقص العمران وتغلّب العدوّ على عامّتها إلّا قليلا بسيف البحر شغلهم بمعايشهم أكثر من شغلهم بما بعدها.
والله غالب على أمره. وأمّا المشرق فلم ينقطع سند التّعليم فيه بل أسواقه نافقة وبحوره زاخرة لاتّصال العمران الموفور واتّصال السّند فيه. وإن كانت الأمصار العظيمة الّتي كانت معادن العلم قد خربت مثل بغداد والبصرة والكوفة إلّا أنّ الله تعالى قد أدال منها بأمصار أعظم من تلك. وانتقل العلم منها إلى عراق العجم بخراسان، وما وراء النّهر من المشرق، ثمّ إلى القاهرة وما إليها من المغرب، فلم تزل موفورة وعمرانها متّصلا وسند التّعليم بها قائما. فأهل المشرق على الجملة أرسخ في صناعة تعليم العلم بل وفي سائر الصّنائع. حتّى إنّه ليظنّ كثير من رحالة أهل المغرب إلى المشرق في طلب العلم أنّ عقولهم [1] على الجملة أكمل من عقول أهل المغرب وأنّهم أشدّ نباهة وأعظم كيسا بفطرتهم الأولى. وأنّ نفوسهم النّاطقة أكمل بفطرتها من نفوس أهل المغرب. ويعتقدون التّفاوت بيننا وبينهم في حقيقة الإنسانيّة ويتشيّعون لذلك ويولعون به لما يرون من كيسهم في العلوم والصّنائع وليس كذلك. وليس بين قطر المشرق والمغرب تفاوت بهذا المقدار الّذي هو تفاوت في الحقيقة الواحدة اللَّهمّ إلّا الأقاليم المنحرفة مثل الأوّل والسّابع فإنّ الأمزجة فيها منحرفة والنّفوس على نسبتها كما مرّ وإنّما الّذي فضل به أهل
[1] أي عقول أهل المشرق.
المشرق أهل المغرب هو ما يحصل في النّفس من آثار الحضارة من العقل المزيد كما تقدّم في الصّنائع، ونزيده الآن شرحا وتحقيقا. وذلك أنّ الحضر لهم آداب في أحوالهم في المعاش والمسكن والبناء وأمور الدّين والدّنيا وكذا سائر أعمالهم وعاداتهم ومعاملاتهم وجميع تصرّفاتهم. فلهم في ذلك كلّه آداب يوقف عندها في جميع ما يتناولونه ويتلبّسون [1] به من أخذ وترك حتّى كأنّها حدود لا تتعدّى.
وهي مع ذلك صنائع يتلقّاها الآخر عن الأوّل منهم. ولا شكّ أنّ كلّ صناعة مرتّبة يرجع منها إلى النّفس أثر يكسبها عقلا جديدا تستعدّ به لقبول صناعة أخرى ويتهيّأ بها العقل بسرعة الإدراك للمعارف. ولقد بلغنا في تعليم الصّنائع عن أهل مصر غايات لا تدرك مثل أنّهم يعلّمون الحمر الإنسيّة والحيوانات العجم من الماشي والطّائر مفردات من الكلام والأفعال يستغرب ندورها ويعجز أهل المغرب عن فهمها فضلا عن تعليمها وحسن الملكات في التّعليم والصّنائع وسائر الأحوال العاديّة يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره بكثرة الملكات الحاصلة للنّفس. إذ قدّمنا أنّ النّفس إنّما تنشأ بالإدراكات. وما يرجع إليها من الملكات فيزدادون بذلك كيسا لما يرجع إلى النّفس من الآثار العلميّة فيظنّه العاميّ تفاوتا في الحقيقة الإنسانيّة وليس كذلك. ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو كيف تجد الحضريّ متحلّيا بالذّكاء ممتلئا من الكيس حتّى إنّ البدويّ ليظنّه أنّه قد فاته في حقيقة إنسانيّته وعقله وليس كذلك. وما ذاك إلّا لإجادته في ملكات الصّنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضريّة ما لا يعرفه البدويّ. فلمّا امتلأ الحضريّ من الصّنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظنّ كلّ من قصّر عن تلك الملكات أنّها لكمال في عقله وأنّ نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلّتها عن فطرته وليس كذلك. فإنّا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته إنّما الّذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق
[1] وفي نسخة أخرى يتكسبون.