الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«تماغس بعد أن يسواد وغداس نوفنا غادس» [1] ويذكر حاجته فإنّه يرى الكشف عمّا يسأل عنه في النّوم. وحكي إنّ رجلا فعل ذلك بعد رياضة ليال في مأكله وذكره فتمثّل له شخص يقول له أنا طبّاعك التّامّ فسأله وأخبره عمّا كان يتشوّف إليه وقد وقع لي أنا بهذه الأسماء مراء عجيبة واطّلعت بها على أمور كنت أتشوّف عليها من أحوالي وليس ذلك بدليل على أنّ القصد للرّؤيا يحدثها وإنّما هذه الحالومات تحدث استعدادا في النّفس لوقوع الرّؤيا فإذا قوي الاستعداد كان أقرب إلى حصول ما يستعدّ له وللشّخص أن يفعل من الاستعداد ما أحبّ ولا يكون دليلا على إيقاع المستعدّ له فالقدرة على الاستعداد غير القدرة على الشّيء فاعلم ذلك وتدبّره فيما تجد من أمثاله والله الحكيم الخبير.
فصل:
ثمّ إنّا نجد في النّوع الإنسانيّ أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميّز بها صنفهم عن سائر النّاس ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة ولا يستدلّون عليه بأثر من النّجوم ولا من غيرها إنّما نجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم الّتي فطروا عليها وذلك مثل العرّافين والنّاظرين في الأجسام الشّفافة كالمرايا وطساس الماء والنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وأهل الزّجر في الطّير والسّباع وأهل الطّرق بالحصى والحبوب من الحنطة والنّوى وهذه كلّها موجودة في عالم الإنسان لا يسع أحدا جحدها ولا إنكارها وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها وكذلك النّائم والميت لأوّل موته أو نومه يتكلّم بالغيب وكذلك أهل الرّياضيّات من المتصوّفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. ونحن الآن نتكلّم عن هذه الإدراكات كلّها ونبتدئ منها بالكهانة ثمّ نأتي عليها واحدة واحدة إلى آخرها ونقدّم على ذلك مقدّمة في أنّ النّفس الإنسانيّة كيف تستعدّ لإدراك الغيب في جميع الأصناف الّتي ذكرناها وذلك أنّها ذات روحانيّة موجودة بالقوّة إلى الفعل
[1] ليس لهذه الكلمات أي معنى في اللغات التي نعرفها وربما تكون لأسماء بعض الجن.
بالبدن وأحواله وهذا أمر مدرك لكلّ أحد وكلّ ما بالقوّة فله مادّة وصورة وصورة هذه النّفس الّتي بها يتمّ وجودها هو عين الإدراك والتّعقّل فهي توجد أوّلا بالقوّة مستعدّة للإدراك وقبول الصّور الكلّيّة والجزئيّة ثمّ يتمّ نشؤها ووجودها بالفعل بمصاحبة البدن وما يعودها بورود مدركاتها المحسوسة عليها وما تنتزع من تلك الإدراكات من المعاني الكلّيّة فتتعقّل الصّور مرّة بعد أخرى حتّى يحصل لها الإدراك والتّعقّل بالفعل فتتمّ ذاتها وتبقى النّفس كالهيولى والصّور متعاقبة عليها بالإدراك واحدة بعد واحدة ولذلك نجد الصّبيّ في أوّل نشأته لا يقدر على الإدراك الّذي لها من ذاتها لا بنوم ولا بكشف ولا بغيرهما وذلك انّ صورتها الّتي هي عين ذاتها وهي الإدراك والتّعقّل لم تتمّ بعد بل لم يتمّ لها انتزاع الكلّيّات ثمّ إذا تمّت ذاتها بالفعل حصل لها ما دامت مع البدن نوعان من الإدراك إدراك بآلات الجسم تؤدّيه إليها المدارك البدنيّة وإدراك بذاتها من غير واسطة وهي محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواسّ وبشواغلها لأنّ الحواسّ أبدا جاذبة لها إلى الظّاهر بما فطرت عليه أوّلا من الإدراك الجسمانيّ وربّما تنغمس من الظّاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إمّا بالخاصّيّة الّتي هي للإنسان على الإطلاق مثل النّوم أو بالخاصيّة الموجودة لبعض البشر مثل الكهانة والطّرق أو بالرّياضة مثل أهل الكشف من الصّوفيّة فتلتفت حينئذ إلى الذّوات الّتي فوقها من الملا لما بين أفقها وأفقهم من الاتّصال في الوجود كما قرّرنا قبل وتلك الذّوات روحانيّة وهي إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما مرّ فيتجلّى فيها شيء من تلك الصّور وتقتبس منها علوما وربّما دفعت تلك الصّور المدركة إلى الخيال فيصرفه في القوالب المعتادة ثمّ يراجع الحسّ بما أدركت إمّا مجرّدا أو في قوالبه فتخبر به. هذا هو شرح استعداد النّفس لهذا الإدراك الغيبيّ. ولنرجع إلى ما وعدنا به من بيان أصنافه. فأمّا النّاظرون في الأجسام الشّفافة من المرايا وطساس المياه وقلوب الحيوان وأكبادها وعظامها وأهل الطّرق بالحصى والنّوى
فكلّهم من قبيل الكهان إلّا أنّهم أضعف رتبة فيه في أصل خلقهم لأنّ الكاهن لا يحتاج في رفع حجاب الحسّ إلى كثير معاناة وهؤلاء يعانونه بانحصار المدارك الحسّيّة كلّها في نوع واحد منها وأشرفها البصر فيعكف على المرئيّ البسيط حتّى يبدو له مدركة الّذي يخبر به عنه وربّما يظنّ أنّ مشاهدة هؤلاء لما يرونه هو في سطح المرآة وليس كذلك بل لا يزالون ينظرون في سطح المرآة إلى أن يغيب عن البصر ويبدو فيما بينهم وبين سطح المرآة حجاب كأنّه غمام يتمثّل فيه صور هي مداركهم فيشيرون إليهم بالمقصود لما يتوجّهون إلى معرفته من نفي أو إثبات فيخبرون بذلك على نحو ما أدركوه وأمّا المرآة وما يدرك فيها من الصّور فلا يدركونه في تلك الحال وإنّما ينشأ لهم بها هذا النّوع الآخر من الإدراك وهو نفسانيّ ليس من إدراك البصر بل يتشكّل به المدرك النّفسانيّ للحسّ كما هو معروف ومثل ذلك ما يعرض للنّاظرين في قلوب الحيوانات وأكبادها وللنّاظرين في الماء والطّساس وأمثال ذلك. وقد شاهدنا من هؤلاء من يشغل الحسّ بالبخور فقط ثمّ بالعزائم للاستعداد ثمّ يخبر كما أدرك ويزعمون أنّهم يرون الصّور متشخّصة في الهواء تحكي لهم أحوال ما يتوجّهون إلى إدراكه بالمثال والإشارة وغيبة هؤلاء عن الحسّ أخفّ من الأوّلين والعالم أبو الغرائب. وأمّا الزّجر وهو ما يحدث من بعض النّاس من التّكلّم بالغيب عند سنوح طائر أو حيوان والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوّة في النّفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئيّ أو مسموع وتكون قوّته المخيّلة كما قدّمناه قويّة فيبعثها في البحث مستعينا بما رآه أو سمعه فيؤدّيه ذلك إلى إدراك ما، كما تفعله القوّة المتخيّلة في النّوم وعند ركود الحواسّ تتوسّط بين المحسوس المرئيّ في يقظته وتجمعه مع ما عقلته فيكون عنها الرّؤيا. وأمّا المجانين فنفوسهم الناطقة ضعيفة التّعلّق بالبدن لفساد أمزجتهم غالبا وضعف الرّوح الحيوانيّ فيها فتكون نفسه غير مستغرقة في الحواسّ ولا منغمسة فيها بما شغلها في نفسها من ألم النّقص ومرضه وربّما زاحمها على
التّعلّق به روحانيّة أخرى شيطانيّة تتشبّث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التّخبّط فإذا أصابه ذلك التّخبّط إمّا لفساد مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النّفوس الشّيطانيّة في تعلّقه غاب عن حسّه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وانطبع فيها بعض الصّور وصرفها الخيال وربّما نطق عن لسانه في تلك الحال من غير إرادة النّطق وإدراك هؤلاء كلّهم مشوب فيه الحقّ بالباطل لأنّه لا يحصل لهم الاتّصال وإن فقدوا الحسّ إلّا بعد الاستعانة بالتّصوّرات الأجنبيّة كما قرّرناه ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك وأمّا العرّافون فهم المتعلّقون بهذا الإدراك وليس لهم ذلك الاتّصال فيسلّطون الفكر على الأمر الّذي يتوجّهون إليه ويأخذون فيه بالظّنّ والتّخمين بناء على ما يتوهّمونه من مبادئ ذلك الاتّصال والإدراك ويدّعون بذلك معرفة الغيب وليس منه على الحقيقة هذا تحصيل هذه الأمور وقد تكلّم عليها المسعودي في مروج الذّهب فما صادف تحقيقا ولا إصابة ويظهر من كلام الرّجل أنّه كان بعيدا عن الرّسوخ في المعارف فينقل ما سمع من أهله ومن غير أهله وهذه الإدراكات الّتي ذكرناها موجودة كلّها في نوع البشر فقد كان العرب يفزعون إلى الكهّان في تعرّف الحوادث ويتنافرون إليهم في الخصومات ليعرّفوهم بالحقّ فيها من إدراك غيبهم وفي كتب أهل الأدب كثير من ذلك واشتهر منهم في الجاهليّة شقّ بن أنمار بن نزار وسطيح بن مازن بن غسّان وكان يدرج كما يدرج الثّوب ولا عظم فيه إلّا الجمجمة ومن مشهور الحكايات عنهما تأويل رؤيا ربيعة بن مضر وما أخبراه به ملك الحبشة لليمن وملك مضر من بعدهم وظهور النّبوة المحمّديّة في قريش ورؤيا الموبذان الّتي أوّلها سطيح لمّا بعث إليه بها كسرى عبد المسيح فأخبره بشأن النّبوة وخراب ملك فارس وهذه كلّها مشهورة وكذلك العرّافون كان في العرب منهم كثير وذكروهم في أشعارهم قال
فقلت لعرّاف اليمامة داوني
…
فإنّك إن داويتني لطبيب
وقال الآخر:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه
…
وعرّاف نجد إن هما شفياني
فقالا شفاك الله والله ما لنا
…
بما حملت منك الضّلوع يدان
[1]
وعرّاف اليمامة هو رباح بن عجلة وعرّاف نجد الأبلق الأسديّ. ومن هذه المدارك الغيبيّة ما يصدر لبعض النّاس عند مفارقة اليقظة والتباسه بالنّوم من الكلام على الشّيء الّذي يتشوّف إليه بما يعطيه غيب ذلك الأمر كما يريد ولا يقع ذلك إلّا في مبادئ النّوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختبار في الكلام فيتكلّم كأنّه مجبور على النّطق وغايته أن يسمعه ويفهمه وكذلك يصدر عن المقتولين عند مفارقة رءوسهم وأوساط أبدانهم كلام بمثل ذلك. ولقد بلغنا عن بعض الجبابرة الظّالمين أنّهم قتلوا من سجونهم أشخاصا ليتعرّفوا من كلامهم عند القتل عواقب أمورهم في أنفسهم فأعلموهم بما يستبشع. وذكر مسلمة في كتاب الغاية له في مثل ذلك أنّ آدميّا إذا جعل في دنّ مملوء بدهن السّمسم ومكث فيه أربعين يوما يغذّى بالتّين والجوز حتّى يذهب لحمه ولا يبقى منه إلّا العروق وشئون رأسه فيخرج من ذلك الدّهن فحين يجفّ عليه الهواء يجيب عن كلّ شيء يسأل عنه من عواقب الأمور الخاصّة والعامّة وهذا فعل من مناكير أفعال السّحرة لكن يفهم منه عجائب العالم الإنسانيّ ومن النّاس. من يحاول حصول هذا المدرك الغيبيّ بالرّياضة فيحاولون بالمجاهدة موتا صناعيا بإماتة جميع القوى البدنيّة ثمّ محو آثارها الّتي تلوّنت بها النّفس ثمّ تغذيتها بالذّكر لتزداد قوّة في نشئها ويحصل ذلك بجمع الفكر وكثرة الجوع ومن المعلوم على القطع أنّه إذا نزل الموت بالبدن ذهب الحسّ وحجابه واطّلعت النّفس على المغيّبات ومن هؤلاء أهل الرّياضة السّحريّة يرتاضون بذلك ليحصل لهم الاطّلاع على المغيّبات والتّصرّفات في العوالم وأكثر هؤلاء في الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا خصوصا بلاد الهند ويسمّون هنالك الحوكيّة ولهم كتب في كيفيّة هذه الرّياضة كثيرة والأخبار عنهم في ذلك غريبة. وأمّا المتصوّفة فرياضتهم دينيّة وعريّة عن هذه المقاصد المذمومة
[1] أي لا نستطيع أن نشفيك من الحب الّذي تحمله ضلوعك
وإنّما يقصدون جمع الهمّة والإقبال على الله بالكلّيّة ليحصل لهم أذواق أهل العرفان والتّوحيد ويزيدون في رياضتهم إلى الجمع والجوع التّغذية بالذّكر فبها تتمّ وجهتهم في هذه الرّياضة لأنّه إذا نشأت النّفس على الذّكر كانت أقرب إلى العرفان باللَّه وإذا عرّيت عن الذّكر كانت شيطانيّة وحصول ما يحصل من معرفة الغيب والتّصرّف لهؤلاء المتصوّفة إنّما هو بالعرض ولا يكون مقصودا من أوّل الأمر لأنّه إذا قصد ذلك كانت الوجهة فيه لغير الله وإنّما هي لقصد التّصرّف والاطّلاع على الغيب وأخسر بها صفقة فإنّها في الحقيقة شرك قال بعضهم: «من آثر العرفان للعرفان فقد قال بالثّاني [1] » فهم يقصدون بوجهتهم المعبود لا لشيء سواه وإذا حصل في أثناء ذلك ما يحصل فبالعرض وغير مقصود لهم وكثير منهم يفرّ منه إذا عرض له ولا يحفل به وإنّما يريد الله لذاته لا لغيره وحصول ذلك لهم معروف ويسمّون ما يقع لهم من الغيب والحديث على الخواطر فراسة وكشفا وما يقع لهم من التّصرّف كرامة وليس شيء من ذلك بنكير في حقّهم وقد ذهب إلى إنكاره الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينيّ وأبو محمّد بن أبي زيد المالكيّ في آخرين [2] فرارا من التباس المعجزة بغيرها والمعوّل عليه عند المتكلّمين حصول التّفرقة بالتحدّي فهو كاف. وقد ثبت في الصّحيح أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ فيكم محدّثين وإنّ منهم عمر» وقد وقع للصّحابة من ذلك وقائع معروفة تشهد بذلك في مثل قول عمر رضي الله عنه «يا سارية الجبل» وهو سارية بن زنيم كان قائدا على بعض جيوش المسلمين بالعراق أيّام الفتوحات وتورّط مع المشتركين في معترك وهمّ بالانهزام وكان بقربة جبل يتحيّز إليه فرفع لعمر ذلك وهو يخطب على المنبر بالمدينة فناداه يا سارية الجبل وسمعه سارية وهو بمكانه ورأى شخصه هنالك والقصّة معروفة ووقع مثله أيضا لأبي بكر في وصيّته
[1] أي أشرك باللَّه بمعنى ان الله له ثان.
[2]
استعمال غير صحيح، وقد استعمله ابن خلدون في مواضع متفرقة من كتابه والصحيح: أخرون.
عائشة ابنته رضي الله عنهما في شأن ما نحلها [1] من أوسق [2] التّمر من حديقته ثمّ نبّهها على جذاذه لتحوّزه [3] عن الورثة فقال في سياق كلامه «وإنّما هما أخواك وأختاك» فقالت: «إنّما هي أسماء فمن الأخرى؟» فقال: «إنّ ذا بطن بنت خارجة أراها جارية» فكانت جارية وقع في الموطّإ في باب ما لا يجوز من النّحل ومثل هذه الوقائع كثيرة لهم ولمن بعدهم من الصّالحين وأهل الاقتداء إلّا أنّ أهل التّصوّف يقولون إنّه يقلّ في زمن النّبوة إذ لا يبقى للمريد حالة بحضرة النّبيّ حتّى إنّهم يقولون إنّ المريد إذا جاء للمدينة النّبويّة يسلب حاله ما دام فيها حتّى يفارقها والله يرزقنا الهداية ويرشدنا إلى الحقّ.
ومن هؤلاء المريدين من المتصوّفة قوم بهاليل [4] معتوهون أشبه بالمجانين من العقلاء وهم مع ذلك قد صحّت لهم مقامات الولاية وأحوال الصّدّيقين وعلم ذلك من أحوالهم من يفهم عنهم من أهل الذّوق [5] مع أنّهم غير مكلّفين ويقع لهم من الأخبار عن المغيّبات عجائب لأنّهم لا يتقيّدون بشيء فيطلقون كلامهم في ذلك ويأتون منه بالعجائب وربّما ينكر الفقهاء أنّهم على شيء من المقامات لما يرون من سقوط التّكليف عنهم والولاية لا تحصل إلّا بالعبادة وهو غلط فإنّ فضل الله يؤتيه من يشاء ولا يتوقّف حصول الولاية على العبادة ولا غيرها وإذا كانت النّفس الإنسانيّة ثابتة الوجود فاللَّه تعالى يخصّها بما شاء من مواهبه وهؤلاء القوم لم تعدم نفوسهم النّاطقة ولا فسدت كحال المجانين وإنّما فقد لهم العقل الّذي يناط به التّكليف وهي صفة خاصّة للنّفس وهي علوم ضروريّة للإنسان يشتدّ بها نظره ويعرف أحوال معاشه واستقامة منزله وكأنّه إذا ميّز أحوال معاشه واستقامة منزله
[1] نحلة: أعطاه. ولكن هنا تعني خصّها. والأصح أن يقول أنحلها.
[2]
أوسق: ج وسق: وهو وزن ستين صاعا أو حمل بعير.
[3]
لتختص به.
[4]
بهاليل: ج بهلول وهو السيد الجامع لكل خير، والمعنى الشائع لكلمة البهلول هو المعتوه.
[5]
أهل الذوق: (الذين يتاح لهم أن يذوقوا حلاوة المعرفة الإلهية) .
لم يبق له عذر في قبول التّكاليف لإصلاح معاده وليس من فقد هذه الصّفة بفاقد لنفسه ولا ذاهل عن حقيقته فيكون موجود الحقيقة معدوم العقل التّكليفيّ الّذي هو معرفة المعاش ولا استحالة في ذلك ولا يتوقّف اصطفاء الله عباده للمعرفة على شيء من التّكاليف وإذا صحّ ذلك فاعلم أنّه ربّما يلتبس حال هؤلاء بالمجانين الّذين تفسد نفوسهم النّاطقة ويلتحقون بالبهائم ولك في تمييزهم علامات منها أنّ هؤلاء البهاليل لا تجد لهم وجهة أصلا ومنها أنّهم يخلقون على البله من أوّل نشأتهم والمجانين يعرض لهم الجنون بعد مدّة من العمر لعوارض بدنيّة طبيعيّة فإذا عرض لهم ذلك وفسدت نفوسهم النّاطقة ذهبوا بالخيبة ومنها كثرة تصرّفهم في النّاس بالخير والشّرّ لأنّهم لا يتوقّفون على إذن لعدم التّكليف في حقّهم والمجانين لا تصرّف لهم وهذا فصل انتهى بنا الكلام إليه والله المرشد للصّواب.
وقد يزعم بعض النّاس أنّ هنا مدارك [1] للغيب من دون غيبة عن الحسّ فمنهم المنجّمون القائلون بالدّلالات النّجوميّة ومقتضى أوضاعها في الفلك وآثارها في العناصر وما يحصل من الامتزاج بين طباعها بالتّناظر ويتأدّى من ذلك المزاج إلى الهواء وهؤلاء المنجّمون ليسوا من الغيب في شيء إنّما هي ظنون حدسيّة وتخمينات مبنيّة على التّآثير النّجوميّة وحصول المزاج منه للهواء مع مزيد حدس يقف به النّاظر على تفصيله في الشّخصيّات في العالم كما قاله بطليموس ونحن نبيّن بطلان ذلك في محلّه إن شاء الله وهو لو ثبت فغايته حدس وتخمين وليس ممّا ذكرناه في شيء. ومن هؤلاء قوم من العامّة استنبطوا لاستخراج الغيب وتعرّف الكائنات صناعة سمّوها خطّ الرّمل نسبة إلى المادّة الّتي يضعون فيها عملهم ومحصول هذه الصّناعة أنّهم صيّروا من النّقط أشكالا ذات أربع مراتب تختلف باختلاف مراتبها في الزّوجيّة والفرديّة واستوائها فيهما فكانت ستّة عشر
[1] كذا في جميع النسخ والكلمة ضعيفة والأصح أن يقال: قد يظن البعض أن هنا من يدرك الغيب.
فتنسجم العبارة كلها.
شكلا لأنّها إن كانت أزواجا كلّها أو أفرادا كلّها فشكلان وإن كان الفرد فيهما في مرتبة واحدة فقط فأربعة أشكال وإن كان الفرد في مرتبتين فستّة أشكال وإن كان في ثلاث مراتب فأربعة أشكال جاءت ستّة عشر شكلا ميّزوها كلّها بأسمائها وأنواعها إلى سعود ونحوس شأن الكواكب وجعلوا لها ستّة عشر بيتا طبيعيّة بزعمهم وكأنّها البروج الاثنا عشر الّتي للفلك والأوتاد الأربعة وجعلوا لكلّ شكل منها بيتا وخطوطا [1] ودلالة على صنف من موجودات عالم العناصر يختصّ به واستنبطوا من ذلك فنّا حاذوا به فنّ النّجامة ونوع فضائه إلّا أنّ أحكام النّجامة مستندة إلى أوضاع طبيعيّة كما يزعم بطليموس وهذه إنّما مستندها أوضاع تحكيميّة وأهواء اتفاقيّة ولا دليل يقوم على شيء منها ويزعمون أنّ أصل ذلك من النبوات القديمة في العالم وربّما نسبوها إلى دانيال أو إلى إدريس صلوات الله عليهما شأن الصّنائع كلّها وربّما يدّعون مشروعيّتها ويحتجّون بقوله صلى الله عليه وسلم: «كان نبيّ يخطّ فمن وافق خطّه فذاك» وليس في الحديث دليل على مشروعيّة خطّ الرّمل كما يزعمه بعض من لا تحصيل لديه لأنّ معنى الحديث كان نبيّ يخطّ فيأتيه الوحي عند ذلك الخطّ ولا استحالة في أن يكون ذلك عادة لبعض الأنبياء فمن وافق خطّه ذلك النّبيّ فهو ذاك أي فهو صحيح من بين الخطّ بما عضده من الوحي لذلك النّبيّ الّذي كانت عادته أن يأتيه الوحي عند الخطّ وأمّا إذا أخذ ذلك من الخطّ مجرّدا من غير موافقة وحي فلا وهذا معنى الحديث والله أعلم. فإذا أرادوا استخراج مغيّب بزعمهم عمدوا إلى قرطاس أو رمل أو دقيق فوضعوا النّقط سطورا على عدد المراتب الأربع ثمّ كرّروا ذلك أربع مرّات فتجيء ستة عشر سطرا ثمّ يطرحون النّقط أزواجا ويضعون ما بقي من كلّ سطر زوجا كان أو فردا في مرتبته على التّرتيب فتجيء أربعة أشكال يضعونها في سطر متتالية ثمّ يولّدون منها أربعة أشكال أخرى من جانب العرض باعتبار كلّ مرتبة وما
[1] في بعض النسخ: حظوظا.
قابلها من الشّكل الّذي بإزائه وما يجتمع منهما من زوج أو فرد فتكون ثمانية أشكال موضوعة في سطر ثمّ يولّدون من كلّ شكلين شكلا تحتهما باعتبار ما يجتمع في كلّ مرتبة من مراتب الشّكلين أيضا من زوج أو فرد فتكون أربعة أخرى تحتها ثمّ يولّدون من الأربعة شكلين كذلك تحتها من الشّكلين شكلا كذلك تحتهما ثمّ من هذا الشّكل الخامس عشر مع الشّكل الأوّل شكلا يكون آخر السّتّة عشر ثمّ يحكمون على الخطّ كلّه بما اقتضته أشكاله من السّعودة والنّحوسة بالذّات والنّظر والحلول والامتزاج والدّلالة على أصناف الموجودات وسائر ذلك تحكّما غريبا وكثرت هذه الصّناعة في العمران ووضعت فيها التّآليف واشتهر فيها الأعلام من المتقدّمين والمتأخّرين وهي كما رأيت تحكّم وهوى والتّحقيق الّذي ينبغي أن يكون نصب فكرك أنّ الغيوب لا تدرك بصناعة البتّة ولا سبيل إلى تعرّفها إلّا للخواصّ من البشر المفطورين على الرّجوع من عالم الحسّ إلى عالم الرّوح ولذلك يسمّي المنجمون هذا الصّنف كلهم بالزّهريّين نسبة إلى ما تقتضيه دلالة الزّهرة بزعمهم في أصل مواليدهم على إدراك الغيب فالخطّ وغيره من هذه إن كان النّاظر فيه من أهل هذه الخاصّيّة وقصد بهذه الأمور الّتي ينظر فيها من النّقط أو العظام أو غيرها إشغال الحسّ لترجع النّفس إلى عالم الرّوحانيّات لحظة ما، فهو من باب الطّرق بالحصى والنّظر في قلوب الحيوانات والمرايا الشّفّافة كما ذكرناه. وإن لم يكن كذلك وإنّما قصد معرفة الغيب بهذه الصّناعة وأنّها تفيده ذلك فهذر من القول والعمل والله يهدي من يشاء. والعلامة لهذه الفطرة الّتي فطر عليها أهل هذا الإدراك الغيبيّ أنّهم عند توجّههم إلى تعرّف الكائنات يعتريهم خروج عن حالتهم الطّبيعيّة كالتّثاؤب والتّمطّط ومبادئ الغيبة عن الحسّ ويختلف ذلك بالقوّة والضّعف على اختلاف وجودها فيهم فمن لم توجد له هذه العلامة فليس من إدراك الغيب في شيء وإنّما هو ساع في تنفيق [1] كذبه.
[1] ترويج.