الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربيّ
أركانه أربعة وهي اللّغة والنّحو والبيان والأدب ومعرفتها ضروريّة على أهل الشّريعة إذ مأخذ الأحكام الشّرعيّة كلّها من الكتاب والسّنّة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصّحابة والتّابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغاتهم فلا بدّ من معرفة العلوم المتعلّقة بهذا اللّسان لمن أراد علم الشّريعة. وتتفاوت في التّأكيد بتفاوت مراتبها في التّوفية بمقصود الكلام حسبما يتبيّن في الكلام عليها فنّا فنّا والّذي يتحصّل أنّ الأهمّ المقدّم منها هو النّحو إذ به تتبيّن أصول المقاصد بالدّلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حقّ علم اللّغة التّقدّم لولا أنّ أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغيّر بخلاف الإعراب الدّالّ على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنّه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان
علم النّحو
أهمّ من اللّغة إذ في جهله الإخلال بالتّفاهم جملة وليست كذلك اللّغة والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
علم النحو
اعلم أنّ اللّغة في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لسانيّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلا بدّ أن تصير ملكة متقرّرة في العضو الفاعل لها وهو اللّسان وهو في كلّ أمّة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات الّتي تعيّن الفاعل أي المفعول من المجرور أعني المضاف ومثلي الحروف الّتي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذّوات من غير تكلّف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلّا في لغة
العرب. وأمّا غيرها من اللّغات فكلّ معنى أو حال لا بدّ له من ألفاظ تخصّه بالدّلالة ولذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول ممّا تقدّره بكلام العرب.
وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا» . فصار للحروف في لغتهم. والحركات والهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدّلالة على المقصود غير متكلّفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنّما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأوّل كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
فلمّا جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الّذي كان في أيدي الأمم والدّول وخالطوا العجم تغيّرت تلك الملكة بما ألقى إليها السّمع من المخالفات الّتي للمستعربين [1] . والسّمع أبو الملكات اللّسانيّة ففسدت بما ألقي إليها ممّا يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السّمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطّردة شبه الكلّيّات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه مثل أنّ الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع. ثمّ رأوا تغيّر الدّلالة بتغيّر حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التّغيّر عاملا وأمثال ذلك. وصارت كلّها اصطلاحات خاصّة بهم فقيّدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة.
واصطلحوا على تسميتها بعلم النّحو. وأوّل من كتب فيها أبو الأسود الدّؤليّ من بني كنانة، ويقال بإشارة عليّ رضي الله عنه لأنّه رأى تغيّر الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثمّ كتب فيها النّاس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيديّ أيّام الرّشيد وكان النّاس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذّب الصّناعة وكمّل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه فكمّل تفاريعها واستكثر من أدلّتها وشواهدها ووضع
[1] وفي نسخة أخرى: للمتعربين من العجم.
فيها كتابه المشهور الّذي صار إماما لكلّ ما كتب فيها من بعده. ثمّ وضع أبو عليّ الفارسيّ وأبو القاسم الزّجّاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه. ثمّ طال الكلام في هذه الصّناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلّة والحجاج بينهم وتباينت الطّرق في التّعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلّمين. وجاء المتأخّرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطّول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التّسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلّمين، كما فعله الزّمخشريّ في المفصّل وابن الحاجب في المقدّمة له. وربّما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصّغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفيّة. وبالجملة فالتّآليف في هذا الفنّ أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التّعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدّمين مغايرة لطريقة المتأخّرين. والكوفيّون والبصريّون والبغداديّون والأندلسيّون مختلفة طرقهم كذلك. وقد كادت هذه الصّناعة تؤذن بالذّهاب لما رأينا من النّقص في سائر العلوم والصّنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدّين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصّلة. وتكلّم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصّناعة من المتكرّر في أكثر أبوابها وسمّاه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلّها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظم سائرها فوقفنا منه على علم جمّ يشهد بعلوّ قدره في هذه الصّناعة ووفور بضاعته منها وكأنّه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الّذين اقتفوا أثر ابن جنّيّ واتّبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دالّ على قوّة ملكته واطّلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
.