الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عند حدوث الفنون والاصطلاحات. ولم يكن صدر الإسلام يطلق على هذا إلّا على عمومه مشتقّا من الفرض الّذي هو لغة التّقدير أو القطع. وما كان المراد به في إطلاقه إلّا جميع الفروض كما قلناه وهي حقيقته الشّرعيّة فلا ينبغي أن يحمل إلّا على ما كان يحمل في عصرهم فهو أليق بمرادهم منه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الفصل التاسع في أصول الفقه وما يتعلق به من الجدل والخلافيات
اعلم أنّ أصول الفقه من أعظم العلوم الشّرعيّة وأجلّها قدرا وأكثرها فائدة وهو النّظر في الأدلّة الشّرعيّة من حيث تؤخذ منها الأحكام والتّآليف [1] . وأصول الأدلّة الشّرعيّة هي الكتاب الّذي هو القرآن ثمّ السّنّة المبنيّة له. فعلى عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت الأحكام تتلقّى منه بما يوحى إليه من القرآن ويبيّنه بقوله وفعله بخطاب شفاهيّ لا يحتاج إلى نقل ولا إلى نظر وقياس. ومن بعده صلوات الله وسلامه عليه تعذّر الخطاب الشّفاهيّ وانحفظ القرآن بالتّواتر. وأمّا السّنّة فأجمع الصّحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب العمل بما يصل إلينا منها قولا أو فعلا بالنّقل الصّحيح الّذي يغلب على الظّنّ صدقه. وتعيّنت دلالة الشّرع في الكتاب والسّنّة بهذا الاعتبار ثمّ ينزّل الإجماع منزلتهما لإجماع الصّحابة على النّكير على مخالفيهم. ولا يكون ذلك إلّا عن مستند لأنّ مثلهم لا يتّفقون من غير دليل ثابت مع شهادة الأدلّة بعصمة الجماعة فصار الإجماع دليلا ثابتا في الشّرعيّات. ثمّ نظرنا في طرق استدلال الصّحابة والسّلف بالكتاب والسّنّة فإذا هم يقيسون الأشباه بالأشباه منهما، ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم،
[1] وفي نسخة أخرى: التكاليف.
وتسليم بعضهم لبعض في ذلك. فإنّ كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النّصوص الثّابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نصّ عليه بشروط في ذلك الإلحاق، تصحّح تلك المساواة بين الشّبيهين أو المثلين. حتّى يغلب على الظّنّ أنّ حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه، وهو القياس وهو رابع الأدلّة. واتّفق جمهور العلماء على أنّ هذه هي أصول الأدلّة وإن خالف بعضهم في الإجماع والقياس إلّا أنّه شذوذ. وألحق بعضهم بهذه الأدلّة الأربعة أدلّة أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها، لضعف مداركها وشذوذ القول فيها. فكان من أوّل مباحث هذا الفنّ النّظر في كون هذه أدلّة. فأمّا الكتاب فدليله المعجزة القاطعة في متنه والتّواتر في نقله، فلم يبق فيه مجال للاحتمال.
وأمّا السّنّة وما نقل إلينا منها فالإجماع على وجوب العمل بما يصحّ منها كما قلناه، معتضدا بما كان عليه العمل في حياته صلوات الله وسلامه عليه من إنفاذ الكتب والرّسل إلى النّواحي بالأحكام والشّرائع آمرا وناهيا. وأمّا الإجماع فلاتّفاقهم رضوان الله تعالى عليهم على إنكار مخالفتهم مع العصمة الثّابتة للأمّة.
وأمّا القياس فبإجماع الصّحابة رضي الله عنهم عليه كما قدّمناه. هذه أصول الأدلّة. ثمّ إنّ المنقول من السّنّة محتاج إلى تصحيح الخبر بالنّظر في طرق النّقل وعدالة النّاقلين لتتميّز الحالة المحصّلة للظّنّ بصدقة الّذي هو مناط وجوب العمل بالخير. وهذه أيضا من قواعد الفنّ. ويلحق بذلك عند التّعارض بين الخبرين وطلب المتقدّم منها معرفة النّاسخ والمنسوخ وهي من فصوله أيضا وأبوابه. ثمّ بعد ذلك يتعيّن النّظر في دلالة [1] الألفاظ وذلك أنّ استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيب الكلام على الإطلاق يتوقّف على معرفة الدّلالات الوضعيّة مفردة ومركّبة. والقوانين اللّسانيّة في ذلك هي علوم النّحو والتّصريف والبيان. وحين
[1] وفي نسخة أخرى: دلالات.
كان الكلام [1] ملكة لأهله لم تكن هذه علوما ولا قوانين ولم يكن الفقه حينئذ يحتاج إليها لأنّها جبلّة وملكة. فلمّا فسدت الملكة في لسان العرب قيّدها الجهابذة المتجرّدون لذلك بنقل صحيح ومقاييس مستنبطة صحيحة وصارت علوما يحتاج إليها الفقيه في معرفة أحكام الله تعالى. ثمّ إنّ هناك استفادات أخرى خاصّة من تراكيب الكلام وهي استفادة الأحكام الشّرعيّة بين المعاني من أدلّتها الخاصّة من تراكيب الكلام وهو الفقه. ولا يكفي فيه معرفة الدّلالات الوضعيّة على الأطلاق بل لا بدّ من معرفة أمور أخرى تتوقّف عليها تلك الدّلالات الخاصّة وبها تستفاد الأحكام بحسب ما أصّل أهل الشّرع وجهابذة العلم من ذلك وجعلوه قوانين لهذه الاستفادة. مثل أنّ اللّغة لا تثبت قياسا والمشترك لا يراد به معناه معا والواو لا تقتضي التّرتيب والعامّ إذا أخرجت أفراد الخاصّ منه هل يبقى حجّة فيما عداها؟ والأمر للوجوب أو النّدب وللفور أو التّراخي والنّهي يقتضي الفساد أو الصّحّة والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ والنّصّ على العلّة كاف في التّعدّد أم لا [2] ؟ وأمثال هذه. فكانت كلّها من قواعد هذا الفنّ. ولكونها من مباحث الدّلالة كانت لغويّة. ثمّ إنّ النّظر في القياس من أعظم قواعد هذا الفنّ لأنّ فيه تحقيق الأصل والفرع فيما يقاس ويماثل من الأحكام وينفتح [3] الوصف الّذي يغلب على الظّنّ أنّ الحكم علق به في الأصل من تبيّن أوصاف ذلك المحلّ أو وجود ذلك الوصف في الفرع من غير معارض يمنع من ترتيب الحكم عليه في مسائل أخرى من توابع ذلك كلّها قواعد لهذا الفنّ. (واعلم) أنّ هذا الفنّ من الفنون المستحدثة في الملّة وكان السّلف في غنية عنه بما أنّ استفادة المعاني من الألفاظ لا يحتاج فيها إلى أزيد ممّا عندهم من الملكة اللّسانيّة. وأمّا القوانين الّتي يحتاج إليها في استفادة الأحكام خصوصا فمنهم أخذ معظمها. وأمّا الأسانيد فلم يكونوا
[1] وفي النسخة الباريسية: اللسان.
[2]
وفي النسخة الباريسية: في التعدي أو لا.
[3]
وفي نسخة أخرى: وتنقيح.
يحتاجون إلى النّظر فيها لقرب العصر وممارسة النّقلة وخبرتهم بهم. فلمّا انقرض السّلف وذهب الصّدر الأوّل وانقلبت العلوم كلّها صناعة كما قرّرناه من قبل احتاج الفقهاء والمجتهدون إلى تحصيل هذه القوانين والقواعد لاستفادة الأحكام من الأدلّة فكتبوها فنا قائما برأسه سمّوه أصول الفقه. وكان أوّل من كتب فيه الشّافعيّ رضي الله تعالى عنه. أملى فيه رسالته المشهورة تكلّم فيها في الأوامر والنّواهي والبيان والخبر والنّسخ وحكم العلّة المنصوصة من القياس. ثمّ كتب فقهاء الحنفيّة فيه وحقّقوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها. وكتب المتكلّمون أيضا كذلك إلّا أنّ كتابة الفقهاء فيها أمسّ بالفقه وأليق بالفروع لكثرة الأمثلة منها والشّواهد وبناء المسائل فيها على النّكت الفقهيّة. والمتكلّمون يجرّدون صور تلك المسائل عن الفقه ويميلون إلى الاستدلال العقليّ ما أمكن لأنّه غالب فنونهم ومقتضى طريقتهم فكان لفقهاء الحنفيّة فيها اليد الطولى من الغوص على النّكت الفقهيّة والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن. وجاء أبو زيد الدّبّوسيّ من أئمّتهم فكتب في القياس بأوسع من جميعهم وتمّم الأبحاث والشّروط الّتي يحتاج إليها فيه وكملت صناعة أصول الفقه بكماله وتهذّبت مسائله وتمهّدت قواعده وعني النّاس بطريقة المتكلّمين فيه. وكان من أحسن ما كتب فيه المتكلّمون كتاب البرهان لإمام الحرمين والمستصفى للغزاليّ وهما من الأشعريّة وكتاب العهد [1] لعبد الجبّار وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصريّ وهما من المعتزلة. وكانت الأربعة قواعد هذا الفنّ وأركانه. ثمّ لخّص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلّمين المتأخّرين وهما الإمام فخر الدّين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدّين الآمديّ في كتاب الأحكام. واختلفت طرائقهما في الفنّ بين التّحقيق والحجاج. فابن الخطيب أميل إلى الاستكثار من الأدلّة والاحتجاج والآمديّ مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل. وأمّا كتاب
[1] وفي النسخة الباريسية: كتاب العمد.