الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المشتركة وتكفّل بحصرها وإن لم تبلغ إلى النّهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر.
وأمّا المختصرات الموجودة في هذا الفنّ المخصوصة بالمتداول من اللّغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطّالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السّكّيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقلّ لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهمّ على الطّالب للحفظ. والله الخلّاق العليم لا ربّ سواه.
فصل: واعلم أنّ النقل الّذي تثبت به اللّغة، إنّما هو النقل عن العرب أنّهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنّهم وضعوها لأنّه متعذّر وبعيد، ولم يعرف لأحد منهم. وكذلك لا تثبت اللّغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأنّ شهادة الاعتبار في باب القياس إنّما يدركها الشّرع الدالّ على صحّة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللّغة إلّا بالعقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمّة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريح وغيرهم. لكنّ القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمنّ أنّ إثبات اللغة في باب الحدود اللّفظيّة، لأنّ الحدّ راجع إلى المعاني، ببيان أنّ مدلول اللفظ المجهول الخفيّ هو مدلول الواضح المشهور، واللّغة إثبات أنّ اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية الظهور.
علم البيان
هذا العلم حادث في الملّة بعد علم العربيّة واللّغة، وهو من العلوم اللّسانيّة لأنّه متعلّق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدّلالة عليه من المعاني وذلك أنّ الأمور الّتي يقصد المتكلّم بها إفادة السّامع من كلامه هي: إمّا تصوّر مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدّالّة على هذه هي المفردات من الأسماء والأفعال والحروف وإمّا تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، ويدلّ عليها بتغيّر الحركات من الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلّها هي صناعة
النّحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدّلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدّلالة عليه لأنّه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلّم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإنّ كلامهم واسع ولكلّ مقام عندهم مقال يختصّ به بعد كمال الإعراب والإبانة. ألا ترى أنّ قولهم (زيد جاءني) مغاير لقولهم (جاءني زيد) من قبل أنّ المتقدّم منهما هو الأهمّ عند المتكلّم فمن قال: جاءني زيد أفاد أنّ اهتمامه بالمجيء قبل الشّخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني أفاد أنّ اهتمامه بالشّخص قبل المجيء المسند.
وكذا التّعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة.
وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم: زيد قائم وإنّ زيدا قائم وإنّ زيدا لقائم متغايرة كلّها في الدّلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإنّ الأوّل العاري عن التّأكيد إنّما يفيد الخالي الذّهن والثّاني المؤكّد بأنّ يفيد المتردّد والثّالث يفيد المنكر فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرّجل ثمّ تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التّنكير تعظيمه وأنّه رجل لا يعادله أحد من الرّجال. ثمّ الجملة الإسناديّة تكون خبريّة وهي الّتي لها خارج تطابقه أولا، وإنشائيّة وهي الّتي لا خارج لها. كالطّلب وأنواعه. ثمّ قد يتعيّن ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثّانية محلّ من الإعراب: فيشرك [1] بذلك منزلة التّابع المفرد نعتا وتوكيدا وبدلا بلا عطف أو يتعيّن العطف إذا لم يكن للثّانية محلّ من الإعراب:
ثمّ يقتضي المحلّ الإطناب والإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثمّ قد يدلّ باللّفظ ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفردا كما تقول: زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة وإنّما تريد شجاعته اللّازمة وتسندها إلى زيد وتسمّى هذه استعارة. وقد تريد باللّفظ المركّب الدّلالة على ملزومه كما تقول: زيد كثير
[1] وفي نسخة أخرى: ينزل.
الرّماد [1] وتريد ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضّيف لأنّ كثرة الرّماد ناشئة عنهما فهي دالّة عليهما. وهذه كلّها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركّب وإنّما هي هيئات وأحوال الواقعات جعلت للدّلالة عليها أحوال وهيئات في الألفاظ كلّ بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمّى بالبيان على البحث عن هذه الدّلالة الّتي للهيئات والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصناف: الصّنف الأوّل يبحث فيه عن هذه الهيئات والأحوال الّتي تطابق باللّفظ جميع مقتضيات الحال ويسمّى علم البلاغة، والصّنف الثّاني يبحث فيه عن الدّلالة على اللّازم اللّفظيّ وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمّى علم البيان. وألحقوا بهما صنفا آخر وهو النّظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التّنميق إمّا بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام [2] معنى أخفى منه لاشتراك اللّفظ بينهما وأمثال ذلك ويسمّى عندهم علم البديع. وأطلق على الأصناف الثّلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصّنف الثّاني لأنّ الأقدمين أوّل من تكلّموا فيه، ثمّ تلاحقت مسائل الفنّ واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثمّ لم تزل مسائل الفنّ تكمل شيئا فشيئا إلى أن محّص [3] السّكاكيّ زبدته وهذّب مسائله ورتّب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفا من التّرتيب وألّف كتابه المسمّى بالمفتاح في النّحو والتّصريف والبيان فجعل هذا الفنّ من بعض أجزائه. وأخذه المتأخّرون من كتابه ولخّصوا منه أمّهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السّكاكيّ في كتاب التّبيان [4] وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدّين القزوينيّ في كتاب الإيضاح والتّلخيص وهو أصغر حجما
[1] وفي نسخة أخرى: رماد القدور.
[2]
وفي نسخة أخرى: بإبهام.
[3]
وفي نسخة أخرى: مخض.
[4]
وفي النسخة الباريسية: البيان.
من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشّرح والتّعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفنّ أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنّه كماليّ في العلوم اللّسانيّة والصّنائع الكماليّة توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزّمخشريّ، وهو كلّه مبنيّ على هذا الفنّ، وهو أصله. وإنّما اختصّ بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصّة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشّعريّة، وفرّعوا له ألقابا وعدّدوا أبوابا ونوّعوا أنواعا. وزعموا أنّهم أحصوها من لسان العرب وإنّما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأنّ علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقّة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممّن ألّف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أنّ ثمرة هذا الفنّ إنّما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأنّ إعجازه في وفاء الدّلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختصّ بالألفاظ في انتفائها وجودة رصفها [1] وتركيبها وهذا هو الإعجاز الّذي تقصّر الأفهام عن إدراكه. وإنّما يدرك بعض الشّيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللّسان العربيّ وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الّذين سمعوه من مبلّغه أعلى مقاما في ذلك لأنّهم فرسان الكلام وجها بذته والذّوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحّه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفنّ المفسّرون وأكثر تفاسير المتقدّمين غفل عنه حتّى ظهر جار الله الزّمخشريّ ووضع كتابه في التّفسير وتتبّع آي القرآن بأحكام هذا الفنّ بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التّفاسير لولا أنّه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل
[1] وفي النسخة الباريسية: وضعها.