الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كالقيروان والكوفة والبصرة وأمثالها ولهذا كانت أقرب إلى الخراب ما لم تراع فيها الأمور الطّبيعيّة.
وممّا يراعى في البلاد السّاحليّة الّتي على البحر أن تكون في جبل أو تكون بين أمّة من الأمم موفورة العدد تكون صريخا للمدينة متى طرقها طارق من العدوّ والسّبب في ذلك أنّ المدينة إذا كانت حاضرة البحر ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيّات ولا موضعها متوعّر من الجبل كانت في غرّة للبيات وسهل طروقها في الأساطيل البحريّة على عدوّها وتحيّفه لها لما يأمن من وجود الصّريخ لها. وأنّ الحضر المتعوّدين للدّعة قد صاروا عيالا وخرجوا عن حكم المقاتلة. وهذه كالإسكندريّة من المشرق وطرابلس من المغرب وبونة وسلا.
ومتى كانت القبائل والعصائب موطّنين بقربها بحيث يبلغهم الصّريخ والنّعير وكانت متوعّرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها كان لها بذلك منعة من العدوّ ويئسوا من طروقها لما يكابدونه من وعرها وما يتوقّعونه من إجابة صريخها كما في سبتة وبجاية وبلد القلّ على صغرها فافهم ذلك واعتبره في اختصاص الإسكندريّة باسم الثّغر من لدن الدّولة العبّاسيّة مع أنّ الدّعوة من ورائها ببرقة وإفريقية. وإنّما اعتبر في ذلك المخافة المتوقّعة فيها من البحر لسهولة وضعها ولذلك والله أعلم كان طروق العدوّ للاسكندريّة وطرابلس في الملّة مرّات متعدّدة والله تعالى أعلم.
الفصل السادس في المساجد والبيوت العظيمة في العالم
اعلم أنّ الله سبحانه وتعالى فضّل من الأرض بقاعا اختصّها بتشريفه وجعلها مواطن لعبادته يضاعف فيها الثّواب وينمو بها الأجور وأخبرنا بذلك على ألسن
رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السّعادة لهم. وكانت المساجد الثّلاثة هي أفضل بقاع الأرض حسبما ثبت في الصّحيحين وهي مكّة والمدينة وبيت المقدس. أمّا البيت الحرام الّذي بمكّة فهو بيت إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه. أمره الله ببنائه وأن يؤذن في النّاس بالحجّ إليه فبناه هو وابنه إسماعيل كما نصّه القرآن وقام بما أمره الله فيه وسكن إسماعيل به مع هاجر ومن نزل معهم من جرهم إلى أن قبضهما الله ودفنا بالحجر [1] منه. وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام. أمرهما الله ببناء مسجده ونصب هياكله ودفن كثير من الأنبياء من ولد إسحاق عليه السلام حواليه. والمدينة مهاجر نبيّنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه أمره الله تعالى بالهجرة إليها وإقامة دين الإسلام بها فبنى مسجده الحرام بها وكان ملحده الشّريف في تربتها فهذه المساجد الثّلاثة قرّة عين المسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وفي الآثار من فضلها ومضاعفة الثّواب في مجاورتها والصّلاة فيها كثير معروف فلنشر إلى شيء من الخبر عن أوّليّة هذه المساجد الثّلاثة وكيف تدرّجت أحوالها إلى أن كمل ظهورها في العالم. فأمّا مكّة فأوّليّتها فيما يقال أنّ آدم صلوات الله عليه بناها قبالة البيت المعمور ثمّ هدمها الطّوفان بعد ذلك وليس فيه خبر صحيح يعوّل عليه. وإنّما اقتبسوه من محمل الآية في قوله «وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ من الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ 2: 127» ثمّ بعث الله إبراهيم وكان من شأنه وشأن زوجته سارة وغيرتها من هاجر ما هو معروف وأوحى الله إليه أن يترك ابنه إسماعيل وأمّه هاجر بالفلاة فوضعهما في مكان البيت وسار عنهما وكيف جعل الله لهما من اللّطف في نبع ماء زمزم ومرور الرّفقة من جرهم بها حتّى احتملوهما وسكنوا إليهما ونزلوا معهما حوالي زمزم كما عرف في موضعه فاتّخذ إسماعيل بموضع الكعبة بيتا يأوي إليه وأدار عليه سياجا من الرّدم وجعله زربا [2] لغنمه وجاء إبراهيم صلوات الله عليه مرارا لزيارته من الشّام
[1] الكعبة. وقال ابن الأثير لمن الحجر هو الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي.
[2]
زريبة المواشي.
أمر في آخرها ببناء الكعبة مكان ذلك الزّرب فبناه واستعان فيه بابنه إسماعيل ودعا النّاس إلى حجّه وبقي إسماعيل ساكنا به ولمّا قبضت أمّه هاجر وقام بنوه من بعده بأمر البيت مع أخوالهم من جرهم ثمّ العماليق من بعدهم واستمرّ الحال على ذلك والنّاس يهرعون إليها من كلّ أفق من جميع أهل الخليقة لا من بني إسماعيل ولا من غيرهم ممّن دنا أو نأى فقد نقل أنّ التّبابعة كانت تحجّ البيت وتعظّمه وأنّ تبّعا كساها الملاء والوصائل وأمر بتطهيرها وجعل لها مفتاحا.
ونقل أيضا أنّ الفرس كانت تحجّه وتقرّب إليه وأنّ غزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم كانا من قرابينهم. ولم يزلّ لجرهم الولاية عليه من بعد ولد إسماعيل من قبل خؤولتهم حتّى إذا خرجت خزاعة وأقاموا بها بعدهم ما شاء الله. ثمّ كثر ولد إسماعيل وانتشروا وتشعّبوا إلى كنانة ثمّ كنانة إلى قريش وغيرهم وساءت ولاية خزاعة فغلبتهم قريش على أمره وأخرجوهم من البيت وملّكوا عليهم يومئذ قصيّ بن كلاب فبنى البيت وسقفه بخشب الدّوم وجريد النّخل وقال الأعشى:
خلفت بثوبي راهب الدّور والّتي
…
بناها قصيّ والمضاض بن جرهم
ثمّ أصاب البيت سيل ويقال حريق وتهدّم وأعادوا بناءه وجمعوا النّفقة لذلك من أموالهم وانكسرت سفينة بساحل جدّة فاشتروا خشبها للسّقف وكانت جدرانه فوق القامة فجعلوها ثماني عشرة ذراعا وكان الباب لاصقا بالأرض فجعلوه فوق القامة لئلّا تدخله السّيول وقصّرت بهم النّفقة عن إتمامه فقصّروا عن قواعده وتركوا منه ستّ أذرع وشبرا أداروها بجدار قصير يطاف من ورائه وهو الحجر وبقي البيت على هذا البناء إلى أن تحصّن ابن الزّبير بمكّة حين دعا لنفسه وزحفت إليه جيوش يزيد بن معاوية مع الحصين بن نمير السّكونيّ. ورمى البيت سنة أربع وستّين فأصابه حريق، يقال من النّفط الّذي رموا به على ابن الزّبير فتصدّعت حيطانه فهدمه ابن الزّبير فأعاد بناءه أحسن ممّا كان بعد أن اختلفت عليه
الصّحابة في بنائه. واحتجّ عليهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لرددت البيت على قواعد إبراهيم ولجعلت له بابين شرقيّا وغربيّا» فهدمه وكشف عن أساس إبراهيم عليه السلام وجمع الوجوه والأكابر حتّى عاينوه وأشار عليه ابن عبّاس بالتّحري في حفظ القبلة على النّاس فأدار على الأساس الخشب ونصب من فوقها الأستار [1] حفظا للقبلة وبعث إلى صنعاء في الفضّة [2] والكلس فحملها. وسأل عن مقطع الحجارة الأوّل فجمع منها ما احتاج إليه ثمّ شرع في البناء على أساس إبراهيم عليه السلام ورفع جدرانها سبعا وعشرين ذراعا وجعل لها بابين لاصقين بالأرض كما روى في حديثه وجعل فرشها وإزرها بالرّخام وصاغ لها المفاتيح وصفائح الأبواب من الذّهب. ثمّ جاء الحجّاج لحصاره أيّام عبد الملك ورمى على المسجد بالمنجنيقات إلى أن تصدّعت حيطانها. ثمّ لمّا ظفر بابن الزّبير شاور عبد الملك فيما بناه وزاده في البيت فأمره بهدمه وردّ البيت على قواعد قريش كما هي اليوم. ويقال: إنّه ندم على ذلك حين علم صحّة رواية ابن الزّبير لحديث عائشة، وقال:«وددت أنّي كنت حمّلت أبا حبيب في أمر البيت وبنائه ما تحمّل» فهدم الحجّاج منها ستّ أذرع وشبرا مكان الحجر وبناها على أساس قريش وسدّ الباب الغربيّ وما تحت عتبة بابها اليوم من الباب الشّرقيّ. وترك سائرها لم يغيّر منه شيئا فكلّ البناء الّذي فيه اليوم بناء ابن الزّبير وبناء الحجّاج في الحائط صلة ظاهرة للعيان لحمة ظاهرة بين البناءين. والبناء متميّز عن البناء بمقدار إصبع شبه الصّدع وقد لحم.
ويعرض هاهنا إشكال قويّ لمنافاته لما يقوله الفقهاء في أمر الطّواف ويحذّر الطّائف أن يميل على الشّاذروان الدّائر على أساس الجدر من أسفلها فيقع طوافه داخل البيت بناء على أنّ الجدر إنّما قامت على بعض الأساس وترك بعضه وهو مكان الشّاذروان وكذا قالوا في تقبيل الحجر الأسود لا بدّ من رجوع الطّائف من
[1] في النسخة الباريسية: الستور.
[2]
وفي النسخة الباريسية: القصّة ومعناها الجصة وهو الأصح.
التّقبيل حتّى يستوي قائما لئلّا يقع بعض طوافه داخل البيت وإذا كانت الجدران كلّها من بناء ابن الزّبير وهو إنّما بني على أساس إبراهيم فكيف يقع هذا الّذي قالوه ولا مخلص من هذا إلّا بأحد أمرين أحدهما أن يكون الحجّاج هدم جميعه وأعاده وقد نقل ذلك جماعة إلّا أنّ العيان في شواهد البناء بالتحام ما بين البناءين وتمييز أحد الشّقّين من أعلاه على الآخر في الصّناعة يردّ ذلك وإمّا أن يكون ابن الزّبير لم يردّ البيت على أساس إبراهيم مع جميع جهاته وإنّما فعل ذلك في الحجر فقط ليدخله فهي الآن مع كونها من بناء ابن الزّبير ليست على قواعد إبراهيم وهذا بعيد ولا محيص من هذين والله تعالى أعلم. ثمّ إنّ مساحة البيت وهو المسجد كان فضاء للطّائفين ولم يكن عليه جدر أيّام النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر من بعده. ثمّ كثر النّاس فاشترى عمر رضي الله عنه دورا هدمها وزادها في المسجد وأدار عليها جدارا دون القامة وفعل مثل ذلك عثمان ثمّ ابن الزّبير ثمّ الوليد بن عبد الملك وبناه بعمد الرّخام ثمّ زاد فيه المنصور وابنه المهديّ من بعده ووقفت الزّيادة واستقرّت على ذلك لعهدنا.
وتشريف الله لهذا البيت وعنايته به أكثر [1] من أن يحاط به وكفى بذلك أن جعله مهبطا للوحي والملائكة ومكانا للعبادة وفرض شرائع الحجّ ومناسكه وأوجب لحرمة من سائر نواحيه من حقوق التّعظيم والحقّ ما لم يوجبه لغيره فمنع كلّ من خالف دين الإسلام من دخول ذلك الحرم وأوجب على داخله أن يتجرّد من المخيط إلّا إزارا يستره وحمى العائذ به والرّاتع في مسارحه من مواقع الآفات فلا يرام فيه خائف ولا يصاد له وحش ولا يحتطب له شجر. وحدّ الحرم الّذي يختصّ بهذه الحرمة من طريق المدينة ثلاثة أميال إلى التّنعيم [2] ومن طريق العراق سبعة أميال إلى الثّنيّة من جبل المنقطع ومن طريق الطّائف سبعة أميال إلى بطن نمرة ومن طريق جدّة سبعة أميال إلى منقطع العشائر. هذا شأن مكّة
[1] وفي النسخة الباريسية: أعظم.
[2]
التنعيم: مكان بمكة في الحل، وهو بين مكة وسرف على فرسخين من مكة وقيل أربعة. وبه مساجد حول مسجد عائشة وسقايا على طريق المدينة منه يحرم المكيون بالعمرة (معجم البلدان) .
وخبرها وتسمّى أمّ القرى وتسمّى الكعبة لعلوّها من اسم الكعب. ويقال لها أيضا بكّة قال الأصمعيّ: لأنّ النّاس يبكّ بعضهم بعضا إليها أي يدفع وقال مجاهد باء بكّة أبدلوها ميما كما قالوا لازب ولازم لقرب المخرجين. وقال النّخعيّ بالباء وبالميم البلد وقال الزّهريّ بالباء للمسجد كلّه وبالميم للحرم وقد كانت الأمم منذ عهد الجاهليّة تعظّمه والملوك تبعث إليه بالأموال والذّخائر مثل كسرى وغيره وقصّة الأسياف وغزالي الذّهب اللّذين وجدهما عبد المطّلب حين احتفر زمزم معروفة وقد وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكّة في الجبّ الّذي كان فيها سبعين ألف أوقيّة من الذّهب ممّا كان الملوك يهدون للبيت فيها ألف ألف دينار مكرّرة مرّتين بمائتي قنطار وزنا وقال له عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: «يا رسول الله لو استعنت بهذا المال على حربك» فلم يفعل. ثمّ ذكر لأبي بكر فلم يحرّكه. هكذا قال الأزرقيّ. وفي البخاريّ يسنده إلى أبي وائل قال:
جلست إلى شيبة بن عثمان وقال جلس إليّ عمر بن الخطّاب فقال: «هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلّا قسمتها بين المسلمين» قلت: ما أنت بفاعل؟
قال: ولم؟ قلت: فلم يفعله صاحباك فقال هما اللّذان يقتدى بهما. وخرّجه أبو داود وابن ماجة وأقام ذلك المال إلى أن كانت فتنة الأفطس وهو الحسن بن الحسين [1] بن عليّ بن عليّ زين العابدين سنة تسع وتسعين ومائة حين غلب مكّة عمد إلى الكعبة فأخذ ما في خزائنها وقال ما تصنع الكعبة بهذا المال موضوعا فيها لا ينتفع به نحن أحقّ به نستعين به على حربنا وأخرجه وتصرّف فيه وبطلت الذّخيرة من الكعبة من يومئذ. (وأما بيت المقدس) وهو المسجد الأقصى فكان أوّل أمره أيّام الصّابئة موضع الزّهرة وكانوا يقرّبون إليه الزّيت فيما يقرّبونه يصبّونه على الصّخرة الّتي هناك ثمّ دثر ذلك الهيكل واتّخذها بنو إسرائيل حين ملكوها قبلة لصلاتهم. وذلك أنّ موسى صلوات الله عليه لمّا خرج
[1] وفي النسخة الباريسية: الحسين بن الحسين.
ببني إسرائيل من مصر لتمليكهم [1] بيت المقدس كما وعد الله أباهم إسرائيل وأباه إسحاق من قبله وأقاموا بأرض التّيه أمره الله باتّخاذ قبّة من خشب السّنط عيّن بالوحي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وأن يكون فيها التّابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وأن يصنع مذبحا للقربان وصف ذلك كلّه في التّوراة أكمل وصف فصنع القبّة ووضع فيها تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح المصنوعة عوضا عن الألواح المنزلة بالكلمات العشر لمّا تكسّرت ووضع المذبح عندها. وعهد الله إلى موسى بأن يكون هارون صاحب القربان ونصبوا تلك القبّة بين خيامهم في التّيه يصلّون إليها ويتقرّبون في المذبح أمامها ويتعرّضون [2] للوحي عندها.
ولمّا ملكوا أرض الشام أنزلوها (بكلكال) من بلاد الأرض المقدّسة ما بين قسم بني يامين وبني أفراييم. وبقيت هنالك أربع عشرة سنة: سبعا مدّة الحرب، وسبعا بعد الفتح أيّام قسمة البلاد. ولمّا توفي يوشع عليه السلام نقلوها إلى بلد شيلو قريبا من كلكال، وأداروا عليها الحيطان. وأقامت على ذلك ثلاثمائة سنة، حتى ملكها بنو فلسطين من أيديهم كما مرّ، وتغلبوا عليهم. ثمّ ردّوا عليهم القبّة ونقلوها بعد وفاة عالي الكوهن إلى نوف. ثمّ نقلت أيام طالوت إلى كنعون في بلاد بني يامين. ولمّا ملك داود عليه السلام نقل القبة والتّابوت إلى بيت المقدس وجعل عليها خباء خاصّا ووضعها على الصّخرة
…
وبقيت تلك القبّة قبلتهم ووضعوها على الصّخرة ببيت المقدس وأراد داود عليه السلام بناء مسجده على الصّخرة مكانها فلم يتمّ له ذلك وعهد به إلى ابنه سليمان فبناه لأربع سنين من ملكه ولخمسمائة سنة من وفاة موسى عليه السلام.
واتّخذ عمده من الصّفر وجعل به صرح الزّجاج وغشّى أبوابه وحيطانه بالذّهب
[1] وفي النسخة الباريسية: ليملكهم.
[2]
وفي النسخة الباريسية: ويقربون في المذبح أمامها ويتوجهون.
وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذّهب وجعل في ظهره قبرا ليضع [1] فيه تابوت العهد وهو التّابوت الّذي فيه الألواح وجاء به من صهيون بلد أبيه داود نقله إليها أيّام عمارة المسجد، فجيء به تحمله الأسباط والكهنوتيّة حتّى وضعه في القبر ووضعت القبّة والأوعية والمذبح كلّ واحد حيث أعدّ له من المسجد. وأقام كذلك ما شاء الله. ثمّ خرّبه بخت نصّر بعد ثمانمائة سنة من بنائه وأحرق التّوراة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الأحجار. ثمّ لمّا أعادهم ملوك الفرس بناه عزيز نبيّ بني إسرائيل لعهده بإعانة بهمن ملك الفرس الّذي كانت الولادة [2] لبني إسرائيل عليه من سبي بخت نصّر وحدّ لهم في بنيانه حدودا دون بناء سليمان بن داود عليهما السلام فلم يتجاوزوها.
وأمّا الأواوين الّتي تحت المسجد، يركب بعضها بعضا، عمود الأعلى منها على قوس الأسفل في طبقتين. ويتوهّم كثير من النّاس أنّها إصطبلات سليمان عليه السلام، وليس كذلك. وإنّما بناها تنزيها للبيت المقدّس عمّا يتوهّم من النّجاسة، لأنّ النّجاسات في شريعتهم وإن كانت في باطن الأرض، وكان ما بينها وبين ظاهر الأرض محشوا بالتراب، بحيث يصل ما بينها وبين الظّاهر خطّ مستقيم ينجّس ذلك الظّاهر بالتّوهّم. والمتوهّم عندهم كالمحقق، فبنوا هذه الأواوين على هذه الصّورة بعمود الأواوين السّفليّة تنتهي إلى أقواسها وينقطع خطّه، فلا تتّصل النّجاسة بالأعلى على خط مستقيم. وتنزّه البيت عن هذه النّجاسة المتوهمة ليكون ذلك أبلغ في الطّهارة والتّقديس.
ثمّ تداونتهم ملوك يونان والفرس والرّوم واستفحل الملك لبني إسرائيل في هذه المدّة ثمّ لبني حشمناي من كهنتهم ثمّ لصهرهم هيرودس ولبنيه من بعده.
وبنى هيرودوس بيت المقدس على بناء سليمان عليه السلام وتأنّق فيه حتّى
[1] وفي النسخة الباريسية: ليودع.
[2]
وفي نسخة أخرى: الولاية.
أكمله في ستّ سنين فلمّا جاء طيطش من ملوك الرّوم وغلبهم وملك أمرهم خرّب بيت المقدّس ومسجدها وأمر أن يزرع مكانه ثمّ أخذ الرّوم بدين المسيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه ثمّ اختلف حال ملوك الرّوم في الأخذ بدين النّصارى تارة وتركه أخرى إلى أن جاء قسطنطين وتنصّرت أمّه هيلانة وارتحلت إلى القدس في طلب الخشبة الّتي صلب عليها المسيح بزعمهم فأخبرها القساوسة بأنّه رمى بخشبته على الأرض وألقى عليها القمامات والقاذورات فاستخرجت الخشبة وبنت مكان تلك القمامات كنيسة القمامة [1] كأنّها على قبره بزعمهم وهرّبت ما وجدت من عمارة البيت وأمرت بطرح الزّبل والقمامات على الصّخرة حتّى غطّاها وخفي مكانها جزاء بزعمها لما فعلوه بقبر المسيح ثمّ بنوا بإزاء القمامة بيت لحم وهو البيت الّذي ولد فيه عيسى عليه السلام وبقي الأمر كذلك إلى أن جاء الإسلام وحضر عمر لفتح بيت المقدس وسأل عن الصّخرة فأري مكانها وقد علاها الزّبل والتّراب فكشف عنها وبنى عليها مسجدا على طريق البداوة وعظّم من شأنه ما أذن الله من تعظيمه وما سبق من أمّ الكتاب في فضله حسبما ثبت ثمّ احتفل الوليد بن عبد الملك في تشييد مسجده على سنن مساجد الإسلام بما شاء الله من الاحتفال كما فعل في المسجد الحرام وفي مسجد النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وفي مسجد دمشق وكانت العرب تسمّيه بلاط الوليد وألزم ملك الرّوم أن يبعث الفعلة والمال لبناء هذه المساجد وأن ينمّقوها بالفسيفساء فأطاع لذلك وتمّ بناؤها على ما اقترحه. ثمّ لمّا ضعف أمر الخلافة أعوام الخمسمائة من الهجرة في آخرها وكانت في ملكة العبيديّين خلفاء القاهر من الشّيعة واختلّ أمرهم زحف الفرنجة إلى بيت المقدس فملكوه وملكوا معه عامّة ثغور الشّام وبنوا على الصّخرة المقدّسة منه كنيسة كانوا يعظّمونها ويفتخرون ببنائها حتّى إذا استقلّ صلاح الدّين بن أيّوب الكرديّ بملك مصر والشّام ومحا أثر العبيديّين وبدعهم زحف إلى الشّام
[1] كذا في جميع النسخ وكذا أوردها ابن الأثير والطبري وتعرف اليوم بكنيسة القيامة.
وجاهد من كان به من الفرنجة حتّى غلبهم على بيت المقدس وعلى ما كانوا ملكوه من ثغور الشّام وذلك لنحو ثمانين وخمسمائة من الهجرة وهدم تلك الكنيسة وأظهر الصّخرة وبنى المسجد على النّحو الّذي هو عليه اليوم لهذا العهد.
ولا يعرض لك الإشكال المعروف في الحديث الصّحيح أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن أوّل بيت وضع فقال: «بين مكّة وبين بناء بيت المقدس» قيل فكم بينهما؟
قال: «أربعون سنة» فإنّ المدّة بين بناء مكّة وبين بناء بيت المقدس بمقدار ما بين إبراهيم وسليمان لأنّ سليمان بإنية وهو ينيف على الألف بكثير. واعلم أنّ المراد بالوضع في الحديث ليس البناء وإنّما المراد أوّل بيت عيّن للعبادة ولا يبعد أن يكون بيت المقدس عيّن للعبادة قبل بناء سليمان بمثل هذه المدّة وقد نقل أنّ الصّابئة بنوا على الصّخرة هيكل الزّهرة فلعلّ ذلك أنّها كانت مكانا للعبادة كما كانت الجاهليّة تضع الأصنام والتّماثيل حوالي الكعبة وفي جوفها والصّابئة الّذين بنوا هيكل الزّهرة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام فلا تبعد مدّة الأربعين سنة بين وضع مكّة للعبادة ووضع بيت المقدس وإن لم يكن هناك بناء كما هو المعروف وأنّ أوّل من بنى بيت المقدس سليمان عليه السلام فتفهّمه ففيه حلّ هذا الإشكال. وأمّا المدينة وهي المسمّاة بيثرب فهي من بناء يثرب بن مهلائيل من العمالقة وملكها بنو إسرائيل من أيديهم فيما ملكوه من أرض الحجاز ثمّ جاورهم بنو قيلة من غسّان وغلبوهم عليها وعلى حصونها. ثمّ أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها لما سبق من عناية الله بها فهاجر إليها ومعه أبو بكر وتبعه أصحابه ونزل بها وبنى مسجده وبيوته في الموضع الّذي كان الله قد أعدّه لذلك وشرّفه في سابق أزله وأواه أبناء قيلة ونصروه فلذلك سمّوا الأنصار وتمّت كلمة الإسلام من المدينة حتّى علت على الكلمات وغلب على قومه وفتح مكّة وملكها وظنّ الأنصار أنّه يتحوّل عنهم إلى بلده فأهمّهم ذلك فخاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنّه غير متحوّل حتّى إذا قبض صلى الله عليه وسلم كان ملحده الشّريف
بها وجاء في فضلها من الأحاديث الصّحيحة ما لا خفاء به ووقع الخلاف بين العلماء في تفضيلها على مكّة وبه قال مالك رحمه الله لما ثبت عنده في ذلك من النّصّ الصّريح عن رفيع بن مخدج أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال المدينة خير من مكّة نقل ذلك أبو الوهّاب في المعونة إلى أحاديث أخرى تدلّ بظاهرها على ذلك وخالف أبو حنيفة والشّافعيّ. وأصبحت على كلّ حال ثانية المسجد الحرام وجنح إليها الأمم بأفئدتهم من كلّ أوب فانظر كيف تدرّجت الفضيلة في هذه المساجد المعظّمة لما سبق من عناية الله لها وتفهّم سرّ الله في الكون وتدريجه على ترتيب محكم في أمور الدّين والدّنيا. وأمّا غير هذه المساجد الثّلاثة فلا نعلمه في الأرض إلّا ما يقال من شأن مسجد آدم عليه السلام بسرنديب من جزائر الهند لكنّه لم يثبت فيه شيء يعوّل عليه وقد كانت للأمم في القديم مساجد يعظّمونها على جهة الدّيانة بزعمهم منها بيوت النّار للفرس وهياكل يونان وبيوت العرب بالحجاز الّتي أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بهدمها في غزواته وقد ذكر المسعوديّ منها بيوتا لسنا من ذكرها في شيء إذ هي غير مشروعة ولا هي على طريق دينيّ ولا يلتفت إليها ولا إلى الخبر عنها ويكفي في ذلك ما وقع في التّواريخ فمن أراد معرفة الأخبار فعليه بها والله يهدي من يشاء سبحانه
.