الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا يسري بساحتها دبيب ولا يحلّق بجوّها طائر ولا تأوي إلى زوايا بيوتهم فارة ولا هرّة [1] كما قال الشّاعر:
تسقط الطّير حيث تلتقط الحبّ
…
وتغشى منازل الكرماء
[2]
فتأمّل سرّ الله تعالى في ذلك واعتبر غاشية الأناسيّ بغاشية العجم من الحيوانات وفتات الموائد بفضلات الرّزق والتّرف وسهولتها على من يبذلها لاستغنائهم عنها في الأكثر لوجود أمثالها لديهم واعلم أنّ اتّساع الأحوال وكثرة النّعم في العمران تابع لكثرته والله سبحانه وتعالى أعلم وهو غنيّ عن العالمين
الفصل الثاني عشر في أسعار المدن
اعلم أنّ الأسواق كلّها تشتمل على حاجات النّاس فمنها الضّروريّ وهي الأقوات من الحنطة وما معناها كالباقلاء والبصل والثّوم وأشباهه ومنها الحاجيّ والكماليّ مثل الأدم والفواكه والملابس والماعون والمراكب وسائر المصانع والمباني فإذا استبحر المصر وكثر ساكنه رخصت أسعار الضّروريّ من القوت وما في معناه وغلت أسعار الكماليّ من الأدم والفواكه وما يتبعها وإذا قلّ ساكن المصر وضعف عمرانه كان الأمر بالعكس من ذلك. والسّبب في ذلك أنّ الحبوب من ضرورات القوت فتتوفّر الدّواعي على اتّخاذها إذ كلّ أحد لا يهمل قوت نفسه ولا قوت منزله لشهره أو سنته فيعمّ اتّخاذها أهل المصر أجمع أو الأكثر منهم في ذلك المصر أو فيما قرب منه لا بدّ من ذلك. وكلّ متّخذ لقوته فتفضل عنه وعن أهل بيته فضلة كبيرة تسدّ خلّة كثيرين من أهل ذلك المصر فتفضل الأقوات عن أهل
[1] وفي النسخة الباريسية وردت هذه العبارة: «يأوي إلى أسراب بيوتها فأرة ولا هر» .
[2]
وفي النسخة الباريسية: يسقط الطير حيث يلتقط الحب ويغشى منازل الكرماء.
المصر من غير شك فترخص أسعارها في الغالب إلّا ما يصيبها في بعض السّنين من الآفات السّماويّة ولولا احتكار النّاس لها لما يتوقّع من تلك الآفات لبذلت دون ثمن ولا عوض لكثرتها بكثرة العمران. وأمّا سائر المرافق من الأدم والفواكه وما إليها لا تعمّ بها البلوى ولا يستغرق اتّخاذها أعمال أهل المصر أجمعين ولا الكثير منهم ثمّ إنّ المصر إذا كان مستبحرا موفور العمران كثير حاجات التّرف توفّرت حينئذ الدّواعي على طلب تلك المرافق والاستكثار منها كلّ بحسب حاله فيقصر الموجود منها على الحاجات قصورا بالغا ويكثر المستامون لها وهي قليلة في نفسها فتزدحم أهل الأغراض ويبذل أهل الرّفه والتّرف أثمانها بإسراف في الغلاء لحاجتهم إليها أكثر من غيرهم فيقع فيها الغلاء كما تراه. وأمّا الصّنائع والأعمال أيضا في الأمصار الموفورة العمران فسبب الغلاء فيها أمور ثلاثة: الأوّل كثرة الحاجة لمكان التّرف في المصر بكثرة عمرانه، والثّاني اعتزاز أهل الأعمال لخدمتهم [1] وامتهان أنفسهم لسهولة المعاش في المدينة بكثرة أقواتها، والثّالث كثرة المترفين وكثرة حاجاتهم إلى امتهان غيرهم وإلى استعمال الصّنّاع في مهنهم فيبذلون في ذلك لأهل الأعمال أكثر من قيمة أعمالهم مزاحمة ومنافسة في الاستئثار بها فيعتزّ العمّال والصّنّاع وأهل الحرف وتغلو أعمالهم وتكثر نفقات أهل المصر في ذلك. وأمّا الأمصار الصّغيرة والقليلة السّاكن فأقواتهم قليلة لقلّة العمل فيها وما يتوقّعونه لصغر مصرهم من عدم القوت فيتمسّكون بما يحصل منه في أيديهم ويحتكرونه فيعزّ وجوده لديهم ويغلو ثمنه على مستامه. وأمّا مرافقهم فلا تدعو إليها أيضا حاجة بقلّة [2] السّاكن وضعف الأحوال فلا تنفق لديهم سوقه فيختصّ بالرّخص في سعره. وقد يدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة ما يعرض [3] عليها من المكوس والمغارم للسّلطان في الأسواق وباب الحفر والحياة في منافع وصولها
[1] وفي نسخة أخرى بخدمتهم.
[2]
وفي نسخة أخرى: لقلة.
[3]
وفي نسخة أخرى: يفرض.
عن البيوعات لما يمسّهم [1] . وبذلك كانت الأسعار في الأمصار أغلى من الأسعار في البادية إذ المكوس والمغارم والفرائض قليلة لديهم أو معدومة. وكثرتها [2] في الأنصار لا سيّما في آخر الدّولة وقد تدخل أيضا في قيمة الأقوات قيمة علاجها في الفلح ويحافظ على ذلك في أسعارها كما وقع بالأندلس لهذا العهد. وذلك أنّهم لمّا ألجأهم النّصارى إلى سيف البحر وبلاده المتوعّرة الخبيثة الزّارعة النّكدة النّبات وملكوا عليهم الأرض الزّاكية والبلد الطّيب فاحتاجوا إلى علاج المزارع والفدن لإصلاح نباتها وفلحها وكان ذلك العلاج بأعمال ذات قيم وموادّ من الزّبل وغيره لها مؤنة وصارت في فلحهم نفقات لها خطر فاعتبروها في سعرهم. واختصّ قطر الأندلس بالغلاء منذ اضطرّهم النّصارى إلى هذا المعمور بالإسلام مع سواحلها لأجل ذلك. ويحسب النّاس إذا سمعوا بغلاء الأسعار في قطرهم أنّها لقلّة الأقوات والحبوب في أرضهم وليس كذلك فهم أكثر أهل المعمور فلحا فيما علمناه وأقومهم عليه وقلّ أن يخلو منهم سلطان أو سوقة عن فدّان أو مزرعة أو فلح إلّا قليلا من أهل الصّناعات والمهن أو الطّراء على الوطن من الغزاة المجاهدين. ولهذا يختصّهم السّلطان في عطائهم بالعولة وهي أقواتهم وعلوفاتهم من الزّرع. وإنّما السّبب في غلاء سعر الحبوب عندهم ما ذكرناه. ولمّا كانت بلاد البربر بالعكس من ذلك في زكاء منابتهم وطيب أرضهم ارتفعت عنهم المؤن جملة في الفلح مع كثرته وعمومته [3] فصار ذلك سببا لرخص الأقوات ببلدهم «والله مقدّر اللّيل والنّهار وهو الواحد القهّار لا ربّ سواه» .
[1] وفي نسخة أخرى: وأبواب أخرى: وأبواب المصر وللجباه في منافع يفرضونها على البياعات لأنفسهم.
[2]
وفي نسخة أخرى: وبالعكس كثيرة.
[3]
وفي نسخة أخرى: عمومه.