الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بأزيد منها كثير عن حاجاتهم ثمّ لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في التّرف وعوائدها وتجري على نهج الدّول السّابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدّولة ويكثر خراج السّلطان خصوصا كثرة بالغة بنفقته في خاصّته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية فتحتاج الدّولة إلى الزّيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسّلطان من النّفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أوّلا كما قلناه ثمّ يزيد الخراج والحاجات والتّدريج في عوائد التّرف وفي العطاء للحامية ويدرك الدّولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقلّ الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم فيستحدث صاحب الدّولة أنواعا من الجباية يضربها على البياعات ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السّلع في أموال المدينة وهو مع هذا مضطرّ لذلك بما دعاه إليه طرق النّاس من كثرة العطاء من زيادة الجيوش والحامية وربّما يزيد ذلك في أواخر الدّولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الآمال ويؤذن ذلك باختلال العمران ويعود على الدّولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحلّ. وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدّولة العبّاسيّة والعبيديّة كثير وفرضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم وأسقط صلاح الدّين أيّوب تلك الرّسوم جملة وأعاضها بآثار الخير وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطّوائف حتّى محى رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقيّة لهذا العهد حين استبدّ بها رؤساؤها والله تعالى أعلم.
الفصل الأربعون في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية
اعلم أنّ الدّولة إذا ضاقت جبايتها بما قدّمناه من التّرف وكثرة العوائد
والنّفقات وقصّر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرّعايا وأسواقهم كما قدّمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزّيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمّال والجباة وامتكاك [1] عظامهم لما يرون أنّهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التّجارة والفلاحة للسّلطان على تسمية الجباية لما يرون التّجّار والفلّاحين يحصلون على الفوائد والغلّات مع يسارة [2] أموالهم وأنّ الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال فيأخذون في اكتساب الحيوان والنّبات لاستغلاله في شراء البضائع والتّعرّض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد وهو غلط عظيم وإدخال الضّرر على الرّعايا من وجوه متعدّدة فأوّلا مضايقة الفلّاحين والتّجّار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإنّ الرّعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السّلطان في ذلك وماله أعظم كثيرا منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غمّ ونكد ثمّ إنّ السّلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرّض له غضّا أو بأيسر ثمن أو لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه ثمّ إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلّها كلّه من زرع أو حرير أو عسل أو سكّر أو غير ذلك من أنواع الغلّات وحصلت بضائع التّجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدّولة فيكلّفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلّاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلّا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناضّ [3] أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضا جامدة ويمكثون عطلا من الإدارة
[1] متك الشيء حطّمه وكسّره والمعنى هنا مجاز.
[2]
قلة.
[3]
ناض: الدرهم والدينار ويقال استخلصه منه نضا أي نقدا (المنجد) .
الّتي فيها كسبهم ومعاشهم وربّما تدعوهم الضّرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السّلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن. وربّما يتكرّر ذلك على التاجر والفلّاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدّد ذلك ويتكرّر ويدخل به على الرّعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السّعي في ذلك جملة ويؤدّي إلى فساد الجباية فإنّ معظم الجباية إنّما هي من الفلّاحين والتّجّار ولا سيّما بعد وضع المكوس ونموّ الجباية بها فإذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة وقعد التّجّار عن التّجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النّقص المتفاحش وإذا قايس السّلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنّسبة إلى الجباية أقلّ من القليل ثمّ إنّه ولو كان مفيدا فيذهب له بحظّ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنّه من البعيد أن يوجد فيه من المكس ولو كان غيره في تلك الصّفقات لكان تكسّبها كلّها حاصلا من جهة الجباية ثمّ فيه التّعرّض لأهل عمرانه واختلال الدّولة بفسادهم ونقصهم فإنّ الرّعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتّجارة نقصت وتلاشت بالنّفقات وكان فيها تلاف أحوالهم، فافهم ذلك [1] وكان الفرس لا يملّكون عليهم إلّا من أهل بيت المملكة ثمّ يختارونه من أهل الفضل والدّين والأدب والسّخاء والشّجاعة والكرم ثمّ يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتّخذ صنعة فيضرّ بجيرانه ولا يتاجر فيحبّ غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنّهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة. واعلم أنّ السّلطان لا ينمي ماله ولا يدرّ موجودة إلّا الجباية وإدرارها إنّما يكون بالعدل في أهل الأموال والنّظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية
[1] علق الدكتور علي عبد الواحد وافي على ذلك في نسخة لجنة البيان العربيّ فيقول:
(يتفق ما يراه ابن خلدون في صدد الأضرار المترتبة على دخول الحكومة مشترية في السوق وعلى اشتغالها بالتجارة أو احتكارها لبعض الأصناف واعتبار ذلك ضرائب غير مباشرة على المستهلكين
…
يتفق ذلك مع ما يراه كثير من المحدثين من علماء الاقتصاد السياسي. انظر كتابنا في «الاقتصاد السياسي» فصل «المنافسة الحرة» . ص 194- 200 في الطبعة الخامسة) .