الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التّصدّي لما ليس له بأهل فيضلّ [1] به المستهدي ويضلّ به المسترشد وفي الأثر «أجرأكم على الفتيا أجرأكم على جراثيم جهنّم» فللسّلطان فيهم لذلك من النّظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو ردّ.
وأمّا القضاء
فهو من الوظائف الدّاخلة تحت الخلافة لأنّه منصب الفصل بين النّاس في الخصومات حسما للتّداعي وقطعا للتّنازع إلّا أنّه بالأحكام الشّرعيّة المتلقّاة من الكتاب والسّنّة، فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجا في عمومها وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم. وأوّل من دفعه إلى غيره وفوّضه فيه عمر رضي الله عنه فولّى أبا الدّرداء معه بالمدينة وولّى شريحا بالبصرة وولّى أبا موسى الأشعريّ بالكوفة وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الّذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه يقول أمّا بعد:
«فإنّ القضاء فريضة محكمة وسنّة متّبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنّه لا ينفع تكلّم بحقّ لا نفاذ له وآس بين النّاس في وجهك ومجلسك وعدلك حتّى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر. والصّلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحقّ فإنّ الحقّ قديم ومراجعة الحقّ خير من التّمادي في الباطل الفهم الفهم فيما يتلجلج في صدرك ممّا ليس في كتاب ولا سنّة ثمّ اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادّعى حقّا غائبا أو بيّنة أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بيّنته أخذت له بحقّه وإلّا استحللت القضاء عليه فإنّ ذلك أنفى للشّكّ وأجلى للعمى. المسلمون عدول بعضهم على بعض إلّا مجلودا في حدّ أو مجرى [2] عليه
[1] في بعض النسخ: فيدلّ أي يثق به ويعتز.
[2]
وفي بعض النسخ: مجرّبا.
شهادة زور أو ظنينا في نسب أو ولاء، فإنّ الله سبحانه عفا عن الإيمان ودرأ بالبيّنات. وإيّاك والقلق والضّجر والتّأفّف بالخصوم فإنّ استقرار الحقّ في مواطن الحقّ يعظّم الله به الأجر ويحسن به الذّكر والسّلام» .
انتهى كتاب عمر وإنّما كانوا يقلّدون القضاء لغيرهم وإن كان ممّا يتعلّق بهم لقيامهم بالسّياسة العامّة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسدّ الثّغور وحماية البيضة، ولم يكن ذلك ممّا يقوم به غيرهم لعظم العناية فاستحقّوا القضاء في الواقعات بين النّاس واستخلفوا فيه من يقوم به تخفيفا على أنفسهم وكانوا مع ذلك إنّما يقلّدونه أهل عصبيّتهم بالنّسب أو الولاء ولا يقلّدونه لمن بعد عنهم في ذلك. وأمّا أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصا كتب الأحكام السّلطانيّة. إلّا أنّ القاضي إنّما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثمّ دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التّدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسّياسة الكبرى واستقرّ منصب القضاء آخر الأمر على أنّه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامّة للمسلمين بالنّظر في أموال [1] المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السّفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنّظر في مصالح الطّرقات والأبنية وتصفّح الشّهود والأمناء والنّوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلّها من تعلّقات وظيفته وتوابع ولايته. وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النّظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السّلطنة ونصفة القضاء وتحتاج إلى علوّ يد وعظيم رهبة تقمع الظّالم من الخصمين وتزجر المتعدّي وكأنّه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه ويكون نظره في البيّنات والتّقرير واعتماد الأمارات
[1] وفي بعض النسخ: أمور.
والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحقّ وحمل الخصمين على الصّلح واستحلاف الشّهود وذلك أوسع من نظر القاضي.
وكان الخلفاء الأوّلون يباشرونها بأنفسهم إلى أيّام المهتدي من بني العبّاس وربّما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولانيّ وكما فعله المأمون ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي داود وربّما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطّوائف [1] وكان يحيى بن أكثم يخرج أيّام المأمون بالطّائفة إلى أرض الرّوم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرّحمن النّاصر من بني أميّة بالأندلس فكانت تولية هذه الوظائف إنّما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوّض أو سلطان متغلّب. وكان أيضا النّظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدّولة العبّاسيّة والأمويّة بالأندلس والعبيديّين بمصر والمغرب راجعا إلى صاحب الشّرطة وهي وظيفة أخرى دينيّة كانت من الوظائف الشّرعيّة في تلك الدّول توسّع النّظر فيها عن أحكام القضاء قليلا فيجعل للتّهمة في الحكم مجالا ويفرض العقوبات الزّاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثّابتة في محالّها ويحكم في القود [2] والقصاص ويقيم التّعزير والتّأديب في حقّ من لم ينته عن الجريمة.
ثمّ تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في الدّول الّتي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعا إلى السّلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن وانقسمت وظيفة الشّرطة قسمين منها وظيفة التّهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعيّن ونصب لذلك في هذه الدّول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشّرعيّة ويسمّى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشّرطة وبقي قسم التّعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثّابتة شرعا فجمع
[1] ربّما تكون محرّفة من الصوائف: أي الغزو أثناء الصيف.
[2]
القود: قتل القاتل بدل القتيل (منجد) .
ذلك للقاضي مع ما تقدّم وصار ذلك من توابع وظيفة ولايته واستقرّ الأمر لهذا العهد على ذلك وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبيّة الدّولة لأنّ الأمر لمّا كان خلافة دينيّة وهذه الخطّة من مراسم الدّين فكانوا لا يولّون فيها إلّا من أهل عصبيّتهم من العرب ومواليهم بالحلف أو بالرّقّ أو بالاصطناع ممّن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه، ولمّا انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كلّه ملكا أو سلطانا صارت هذه الخطط الدّينيّة بعيدة عنه بعض الشّيء لأنّها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثمّ خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم التّرك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافيّة بعدا عنهم بمنحاها وعصبيّتها. وذلك أنّ العرب كانوا يرون أنّ الشّريعة دينهم وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم، وغيرهم لا يرون ذلك إنّما يولّونها جانبا من التّعظيم لما دانوا بالملّة فقط. فصاروا يقلّدونها من غير عصابتهم ممّن كان تأهّل لها في دول الخلفاء السّالفة.
وكان أولئك المتأهّلون بما أخذهم ترف الدّول منذ مئين من السّنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم، وقلّة الممانعة عن أنفسهم، وصارت هذه الخطط في الدّول الملوكيّة من بعد الخلفاء مختصّة بهذا الصّنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العزّ لفقد الأهليّة بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في التّرف والدّعة، البعداء عن عصبيّة الملك الّذين هم عيال على الحامية، وصار اعتبارهم في الدّولة من أجل قيامها بالملّة وأخذها بأحكام الشّريعة، لما أنّهم الحاملون للأحكام المقتدون بها. ولم يكن إيثارهم في الدّولة حينئذ إكراما لذواتهم، وإنّما هو لما يتلمّح من التّجمّل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرّتب الشّرعيّة، ولم يكن لهم فيها من الحلّ والعقد شيء، وإن حضروه فحضور رسميّ لا حقيقة وراءه، إذ حقيقة الحلّ والعقد إنّما هي لأهل القدرة عليه
فمن لا قدرة له عليه فلا حلّ له ولا عقد لديه. اللَّهمّ إلّا أخذ الأحكام الشّرعيّة عنهم، وتلقّي الفتاوى منهم فنعم والله الموفّق. وربّما يظنّ بعض النّاس أنّ الحقّ فيما وراء ذلك وأنّ فعل الملوك فيما فعلوه من إخراج الفقهاء والقضاة من الشّورى مرجوح وقد قال صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ ذلك ليس كما ظنّه [1] وحكم الملك والسّلطان إنّما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلّا كان بعيدا عن السّياسة. فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئا من ذلك لأنّ الشّورى والحلّ والعقد لا تكون إلّا لصاحب عصبيّة يقتدر بها على حلّ أو عقد أو فعل أو ترك، وأمّا من لا عصبيّة له ولا يملك من أمر نفسه شيئا ولا من حمايتها وإنّما هو عيال على غيره فأيّ مدخل له في الشّورى أو أيّ معنى يدعو إلى اعتباره فيها؟ اللَّهمّ إلّا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشّرعيّة فموجودة في الاستفتاء خاصّة. وأمّا شوراه في السّياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبيّة والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها وإنّما إكرامهم من تبرّعات الملوك والأمراء الشّاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدّين وتعظيم من ينتسب إليه بأيّ جهة انتسب وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم «العلماء ورثة الأنبياء» فاعلم أنّ الفقهاء في الأغلب لهذا العهد وما احتفّ به إنّما حمّلوا الشّريعة أقوالا في كيفيّة الأعمال في العبادات وكيفيّة القضاء في المعاملات ينصّونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتّصفون إلّا بالأقلّ منها وفي بعض الأحوال والسّلف رضوان الله عليهم وأهل الدّين والورع من المسلمين حملوا الشّريعة اتّصافا بها وتحقّقا بمذاهبها. فمن حملها اتّصافا وتحقّقا دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيريّ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التّابعين والسّلف والأئمّة الأربعة ومن اقتفى طريقهم وجاء على أثرهم وإذا انفرد واحد من الأمّة بأحد الأمرين فالعابد أحقّ بالوراثة من الفقيه الّذي ليس بعابد لأنّ العابد ورث بصفة والفقيه الّذي ليس بعابد لم يرث
[1] الضمير يعود إلى الناس أو العامة.