الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباجربقيّ من هذا النّوع. ولقد سألت أكمل الدّين ابن شيخ الحنفيّة من العجم بالدّيار المصريّة عن هذه الملحمة وعن هذا الرّجل الّذي تنسب إليه من الصّوفيّة وهو الباجربقيّ وكان عارفا بطرائقهم فقال كان من القلندريّة المبتدعة في حلق اللّحية وكان يتحدّث عمّا يكون بطريق الكشف ويومي إلى رجال معيّنين عنده ويلغز عليهم بحروف يعيّنها في ضمنها لمن يراه منهم وربّما يظهر نظم ذلك في أبيات قليلة كان يتعاهدها فتنوقلت عنه وولع النّاس بها وجعلوها ملحمة مرموزة وزاد فيها الخرّاصون من ذلك الجنس في كلّ عصر وشغل العامّة بفكّ رموزها وهو أمر ممتنع إذ الرّمز إنّما يهدي إلى كشفه قانون يعرف قبله ويوضع له وأمّا مثل هذه الحروف فدلالتها على المراد منها مخصوصة بهذا النّظم لا يتجاوزوه فرأيت من كلام هذا الرّجل الفاضل شفاء لما كان في النّفس من أمر هذه الملحمة «وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا الله 7: 43» والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التّوفيق.
الباب الرابع من الكتاب الأول في البلدان والأمصار وسائر العمران وما يعرض في ذلك من الأحوال وفيه سوابق ولواحق
الفصل الأول في أن الدول من المدن والأمصار وأنها إنما توجد ثانية عن الملك
وبيانه أنّ البناء واختطاط المنازل إنّما من منازع الحضارة الّتي يدعو إليها التّرف والدّعة كما قدّمناه وذلك متأخّر عن البداوة ومنازعها وأيضا فالمدن
والأمصار ذات هياكل وأجرام عظيمة وبناء كبير وهي موضوعة للعموم لا للخصوص فتحتاج إلى اجتماع الأيدي وكثرة التّعاون وليست من الأمور الضّروريّة للنّاس الّتي تعمّ بها البلوى حتّى يكون نزوعهم إليها اضطرارا بل لا بدّ من إكراههم على ذلك وسوقهم إليه مضطهدين بعصا الملك أو مرغّبين في الثّواب والأجر الّذي لا يفي بكثرته إلّا الملك والدّولة. فلا بدّ في تمصير الأمصار واختطاط المدن من الدّولة والملك. ثمّ إذا بنيت المدينة وكمل تشييدها بحسب نظر من شيّدها وبما اقتضته الأحوال السّماويّة والأرضيّة فيها فعمر الدّولة حينئذ عمر لها فإن كان عمر الدّولة قصيرا وقف الحل فيها عند انتهاء الدّولة وتراجع عمرانها وخربت وإن كان أمد الدّولة طويلا ومدّتها منفسحة فلا تزال المصانع فيها تشاد والمنازل الرّحيبة تكثر وتتعدّد ونطاق الأسواق يتباعد وينفسح إلى أن تتّسع الخطّة وتبعد المسافة وينفسح ذرع المساحة كما وقع ببغداد وأمثالها. ذكر الخطيب في تأريخه أنّ الحمّامات بلغ عددها ببغداد لعهد المأمون خمسة وستّين ألف حمّام وكانت مشتملة على مدن وأمصار متلاصقة ومتقاربة تجاوز الأربعين ولم تكن مدينة وحدها يجمعها سور واحد لإفراط العمران وكذا حال القيروان وقرطبة والمهديّة في الملّة الإسلاميّة وحال مصر القاهرة بعدها فيما بلغنا لهذا العهد وأمّا بعد انقراض الدّولة المشيّدة للمدينة فإمّا أن يكون لضواحي تلك المدينة وما قاربها من الجبال والبسائط بادية يمدّها العمران دائما فيكون ذلك حافظا لوجودها ويستمرّ عمرها بعد الدّولة كما تراه بفاس وبجاية من المغرب وبعراق العجم من المشرق الموجود لها العمران من الجبال لأنّ أهل البداوة إذا انتهت أحوالهم إلى غاياتها من الرّفه والكسب تدعو إلى الدّعة والسّكون الّذي في طبيعة البشر فينزلون المدن والأمصار ويتأهّلون وأمّا إذا لم يكن لتلك المدينة المؤسّسة مادّة تفيدها العمران بترادف السّاكن من بدوها فيكون انقراض الدّولة خرقا لسياجها فيزول حفظها ويتناقص عمرانها شيئا فشيئا إلى أن يبذعرّ [1]
[1] يتفرق.